العلاوي المستغانمي: مقام الاستعارة الحية

العلاوي المستغانمي: مقام الاستعارة الحية

14 يوليو 2015
(1874 - 1934)
+ الخط -

يقوم الخطاب الصوفي -بما فيه من حِكم ووارِداتٍ- على أسلوب اللمحة والإشارة، وتنساب فيه الجُمل كأنَّها أطياف عبارات، تتوالى موجزة فتيَّة، تحاكي ما يعانيه أهله من نَفحات الحقّ، وما ينشدونه من الخير والجمال. وكأنما يكتب هؤلاء العارفون حين يهيمون، فَتفيض لديهم الأشواق، فيصوغون حِكماً تكتنز مواقف الروحِ حيال الكون والإرادة والمصير.

ومن العارفين ممن أبدع في الصياغة الأدبية لبعض مُكاشفاته للحق، الشيخ الجزائري أحمد العلاوي (1874-1934)، الذي تصادف ذكرى وفاته اليوم الثلاثاء. عاش العلاوي ومات في مدينة مستغانم الجزائرية، ومنها تجوّل في أقطار الأرض ينشر تعاليم إحدى أكبر الطرق الصوفية البارزة في القرن العشرين.

برع هذا الشيخ في فن التصوف، وربّى أجيالاً من المريدين، فتَداعى إليه طُلابُ الحقيقة من كل أصقاع العالم، شرقه وغربه. ومن تراثه الواسع شعرًا ونثرًا سلسلةٌ من الحِكم. والحِكمة في التراث الصوفي -وابن عطاء الله الإسكندري من أهم أعلامها- جنسٌ أدبي مستقلٌّ بنفسه، عبارةٌ عن لمحٍ قِصار، تختزل أعماق التجربة البشرية، وتُبين وجوه العلائق بين وضعية الإنسان والربوبيَّة، وهذا نموذجٌ من عشرات الحكم التي صاغها قلم الشيخ العلاوي: "مَن عَرَفَ اللهَ في نَفسهِ، رَجَع إلَيْها واتَّبَعَ مَرضاتَها" وقولُه: "الحَقُّ لَيسَ بقريبٍ، كَما أنَّه لَيسَ بِبعيدٍ".

فالحِكمة نصٌّ أدبي-معرفي وجنسٌ عريقٌ من فنون الكلام العالي، يتعالى فيها الفكر الإنساني عن أوصاب المادة، ويسمو بها على نوازع الصراع. في صياغتها طاقة جبَّارة، تُحرر اللغة من أعبائها، لا هي رمزية تُرهق القارئ حين يغوص في أغوارها، ولا هي فلسفية تُنهكه بما فيها من التجريد، بل هي قريبة بعيدة، مثل الحق الذي به تغنَّى به الشيخ، ثمَّ حوَّل تغنيه إلى تربية للروح، وخدمة للثقافة، وجمعًا لآلاف الأتباع على التوحيد الخالص والحب الصافي.

اعتنى المفكرون الغربيون بالشيخ أحمد العلاوي وحكمه وأشعاره وسائر كتبه التي بلغت أربعةً وعشرين، ولعلَّ أشهرهم المفكر البريطاني مارتن لينغز، الذي خصَّص له كتابًا شاملًا. وكأن الذي شَدَّه -وعشراتٍ مثله- هو أدب الحكمة وكثافة الدلالات فيها، تلك الطاقة المعرفية التي أسماها بول ريكور "الاستعارة الحَيَّة"، التي تحيي الوجدان وتوقف الوعي أمام أستار الحق.

في زمن التفاهة التي تملأ فضاء اللغة والمعرفة والضمير، يجد القارئ كلامًا نفيسًا، فيه ذوب للروح، وفيه غذاءٌ للعقل، يوحي خلاله الكلام وحيًا، ولا يجود بمعناه إلا لطالبيه.

قد يُعين بعض الأدب الصوفي بما فيه من نصاعةٍ في العبارة ونفاذٍ في الإشارة على ما في زمننا من الكثافة. ولعلَّ هذا الأدب -إن أُحسن الاستمداد منه- قادرٌ أن يكونَ رافدًا ثقافيًا نفيسًا للفكر العربي الجديد.


* باحث وأستاذ جامعي تونسي/ فرنسا 

دلالات

المساهمون