يوم درب الآلام

يوم درب الآلام

23 ديسمبر 2019
("طريق الآلام" في القدس المحتلة، Getty)
+ الخط -

كان أول شيء فكّرت فيه، حين أصبحت القدس على مقربة، تلك الرغبة القديمة لديّ بزيارة ومعرفة درب الآلام. فهو استعارة تناسب حالنا نحن الفلسطينيين. ومع أني لا أحب تداول الرموز ولو قليلاً، إلا أني شعرت بضعف ما تجاه موقع هذا الدرب ومعالمه. أقول لنفسي: لا تتاح زيارة القدس إلا مرّات في العمر، فلأقتنص الفرصة، ولأرَ هذا الدرب على الأرض، بعدما تعاملت معه مراراً كاستعارة أدبية ومجاز.

طبعاً لدي معرفة لا بأس بها عنه، إنما لا تكفي. لذا سألت واستقصيت، من غير مقدسي، وغير سائح، حتى حصلت على ما يكفي، لأرتب رحلة صحيحة إليه. كان السؤال هو: هل أمتلك ما يكفي للمغامرة بالتواجد في قلب البلدة القديمة، وهي على ما هي عليه، من مراقبة وتفتيش يصلان إلى حدّ الهوس الأمني؟ أعرف أنه مكان خطِر، لكن الغاية تبرّر المخاطرة.

استجمعت شجاعتي واستهانتي، وهما ضروريتان معاً، لمن هم في حالي، وخرجت سراً، دون إخبار أحد، وخاصة أخي.

بدأت التحرّك في التاسعة صباحاً. ركبت باصاً أخضر صغيراً، من على المفترق القريب من الفندق، متوجهاً لباب العامود. هناك، من محطة الباصات المركزية، نزلت ومشيت حتى الباب، ثم نزولاً، فنزولاً، فصعوداً هيّناً، إلى أن أوصلني أحد المارة المقدسيين، إلى المكان المطلوب.

فكّرني الرجل مسيحياً من غزة، فكان طوال الطريق يطمئنني ويسألني عن أوضاعنا في الحرب والحصار. أخيراً أوصلني، بعد مروقنا في عدة طرق ضيقة منحدرة، إلى شارع صاعد، ومن ثم وقفنا أمام المدرسة الابتدائية العمرية، القابعة على مرتفع. قال: ثمة داخل المدرسة، تلك الصخرة الكبيرة، التي أُدينَ عندها السيد المسيح ليبدأ المسير في درب الآلام.
كنت مرهقاً، والعرق ينزّ من جبيني. فتجاهلت رغبتي في دخول المدرسة، ومن على بابها، بجوار كنيسة الجَلْد، انطلقت بالرحلة.

فوجئت حين جاءت مني لفتة، فإذا أنا غير بعيد عن مدخل قبة الصخرة. توتّرت شيئاً، ثم طمأنت نفسي، بأنّ تركيزهم الشرطي، ينصب على المسجد ومداخله، أكثر من اهتمامهم بالأماكن المسيحية. فبحكم رمضان، كل الزحمة تقع حول مداخل الحرم، بينما الآثار المسيحية، لا تحظى سوى بسياح وحجاج نادرين، في مثل هذا الوقت من السنة.

شعرت بقوة داخلية وأنا أفكّر على هذا النحو. ومع أني وحيد، فقد واصلت طريقي في شوارع وأزقة ومنخفضات درب الآلام، دون خوف تقريباً.

إنني الآن في شارع الواد، وعليّ الوصول صعوداً لشارع خان الزيت، ثم المشي إلى الجنوب قليلاً، والدخول في سوق الدبّاغين، فالدخول إلى كنيسة القيامة. فأكون بذلك، مشيت الطريق كاملاً، بمراحله الأربع عشرة.

جيد. أصعد وأدقّق. دكاكين سوفينيرز صخرية مسقوفة، دكاكين على الجانبين. ومنعطفات جانبية وشوارع تضيق وتتسع. وكلها أمشيها متخيّلاً حاملَ الصليب، وهو في ساعاته الأخيرة، أعزلَ، غريباً، بين جمهرة من الأعداء.

أغوص في زحام سابلة خان الزيت (معظمهم متسوقون)، إلى أن أصل إلى المدخل الرئيس لكنيسة القيامة. باق خمس مراحل من الدرب موجودة هنا. أدخل، فأرى قسيساً أفريقياً صغير الجرم يرمقني، فأشعر بضيق ما، ولا أسأل عن المراحل المتبقية. أغادر المكان العابق بسخام الشموع، وبعد دقائق أكون خارج أسوار المدينة العتيقة كلّها.

لقد مشيت درب الآلام إذن. وبهذا تحقق حلمي القديم_الجديد. نقطة. على الأقلّ سأكتب مستقبلاً عن تلك الاستعارة، بعدما رأيتها رؤية العين، وخبرت معالمها. فأي امتياز. لقد صرت حاجّاً يا باسم!

أجل. والمثير، أنني شعرت بقربى روحية وجسدية وطيدة من السيد المسيح، لم أمرّ بها من قبل. فهو ابن هذه الأرض، ونتاجها، ومظلومها الأكبر والأشهر. تماماً كما هو حالنا اليوم. فكم من مشتركات، وكم من وشائج، وكم... كم نشبهك يا سيدي!

لم تكن كل هذه المعالم الطبوغرافية موجودة وقائمة في عصرك. على الأرجح، كانت الدرب كلها رعوية قاحلة. لا كنائس ولا مساجد ولا بيوت ولا حوانيت. أرض صخرية صمّاء، ينبت عليها بعض العشب. وثمة من حولك الحرس والجنود. تمشي وتمشي، فتقع وتتعب من ثقل الصليب الكبير. ثم تقوم وتمشي، فتقع ثانية. لا أعرف كم وقعت مرتين أم ثلاثاً، لكنني أعرف، أنا ابن البشر، ما يعانيه البشر، في لحظة الغسق الأخيرة هذه.

من هنا أتماهى معك. ومن هنا، تتبلل عيناي بغمام خفيف.

أركب الباص عائداً، وفي أثناء الرحلة، أراقب ملامح الركّاب، سكان المدينة الأصليين، وأسأل: كم فيهم، بيولوجياً، من المسيح؟ العرق دساس كما يقول العرب. كم فيهم منه؟ إنهم أحفاده على كل حال. ورغم أنه لم يتزوج وينجب، إلا أنّ عرقهم من عرقه، وطينتهم من طينته، حتى لو اختلفت الأزمان والديانات.

أصل إلى الفندق، سالماً "غانماً" هذه الرحلة، التي، برغم كل شيء، تمّت على خير.

الحمد لله.

في الغرفة، أحدّق في اللاشيء. كم فيك يا باسم منه؟ سؤال وجيه، ما سُئل يوماً. كم فيك منه؟ من ذاك الذي، سيرته ومسيرته، أقرب إلى الشاعر الحالم، منها إلى رجل الدولة، ورجل الدنيا بملذاتها ومسراتها، لؤمها ودسائسها؟ كم فيكَ منه!

يكفي أن تحبه، لأنه فقط قال: "مملكتي ليست من هذا العالم".

لكَم تُشبه جدّكَ أيها الفلسطيني الحفيد!

هل تذكر؟

كنت فتى. وكانت الأحراش جواركم. وكنت تهرب إليها، تعويضاً عن ضيق البيت. وثمة، بين السماء والطارق، بين الشجر والرمال، كنت تحلم بكوخ منعزل، أنتَ أيضاً، بعيداً عن الناس. واليوم، بعد 35 سنة، تغيّرت مظاهر الحلم، ولم يتغيّر جوهره: اليوم، تحلم بغرفة على رأس جبل، هنالك في السويد أو النرويج!

ذلك أنك، أنت أيضاً، مملكتك ليست من هذا العالم.

لم تكن وأبداً لن تكون.

أمِن قليل، غامت عيناك اليومَ يا سيدي؟

صديقك خالد، يقول عن مكان سكناه، إنه بيت، موجود بالصدفة، في تونس.

نفس النغمة، سيان قالها نبيّ أو شاعر، أيها الصديق.

فكل الطرق، طرق الشعراء خاصة، تؤدّي إلى مُعتَكفٍ "خارج هذا العالم".

ليرحمنا الله أيها الشاعر.

ثمة نقر على الباب. أقوم وأستقبل أخي وجاري.

زيارة روتينية

صباحاً، نذهب لمراجعة المستشفى، في زيارة يومية صارت روتيناً. نذهب لغرفة المنسق الاجتماعي، وهو حلقة الوصل بيننا وبين الفندق والمستشفى. يخبرنا بضرورة مقابلة دكتور الإشعاع، واحتمال عودتنا للقطاع، بعد أخذ موعد جديد، على الأغلب سيكون بعد إجازة العيد.

أشعر بضيق. فمعنى هذا انتظار أخي لشهر على الأرجح، قبل مباشرة العلاج. وحينها سندخل في متاهة الإجراءات البيروقراطية، كمن يبدأ من الصفر. ومع كل ما في هذا من عذاب وبهدلة، فإنّ الخوف، هو من انتشار الورم. لقد تأخّر أخي كثيراً، فلمَ هذا التأخير الإضافي؟

إنهم يزيدون الطين بلّة! لكنهم معذورون. فالمرضى بالمئات وطاقة المشفى محدودة.

نذهب للطبيب، فنرى ورقة التقرير الطبي جاهزة على مكتبه. ستعودون للقدس في 6/10، القادم، حيث موعد أول جلسة إشعاع.

- يا دكتور! لقد وصلنا إلى هنا بشقّ الأنفس، فمن يضمن لنا سلاسة العودة! ثمة إسرائيل، وثمة إجراءات أمنها، التي تعرفها.
- لا تخافوا. سيعطونكم التصريح، لأنّ تقريري الطبي واضح ومحدد ودقيق: لا مفرّ من العلاج الإشعاعي.
- حسناً، فمن يضمن لنا عدم تلكؤهم؟
- أنتم وحظكم عاد. هنا تنتهي صلاحياتي.

نخرج من عنده، وإحساس بالغدر يتلبّسنا. لقد انتظرنا حوالي الأسبوع، بلا فائدة. والآن يصدر القرار بعودتنا على حين غرّة أو بالحريّ: "غدرة"!
- لا بأس يا أخي. عسى أن تكرهوا شيئاً وهو ...
يقاطعني بغضب: - لقد خذلني طبيب الإشعاع!
- هوّن عليك! سنكسب العيد هناك، فنعيّد بين أولادنا وأمنا.
- أخاف من مستجدّات الوضع السياسي. عملية تحدث، أو صاروخ يُطلق على "سديروت"، فيقفلون المعبر!
- إن شاء الله ما بصير ولا إشي.
- إن شاء الله.
نلفّ أركان المكان الهادئ. نودّع المشفى من كل زواياه. نعود فنزور الكنيسة الجميلة، ونتأمل البرج، ثم نغادر.
حين نصل إلى الفندق، نرى المنسق الاجتماعي مع صاحب الفندق.
- ستسافرون غداً. لذا أمامكم وقت للتسوّق وشراء الهدايا للأهل، وخلافه ..
- شكراً.

نعرف أنّ ساعاتنا باتت معدودة.

أخي يشعر بقهر. وخوفه من عدم القدرة على العودة، خوف منطقي وموضوعي. فغزة تعيش على حافة بركان، ولا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد ساعة.

أحاول تطمينه بما أوتيت، وأنجح بعض الشيء.

يبتسم أخيراً. ويبدأ في إعداد شنطه. نرتب الغرفة، ونعيد حاجياتنا للحقائب. يترك أخي قرآناً وسجادة صلاة، للنزيل الجديد.

أقول له: سأترك ورقة بمئة شيكل، ومبروكة على من يجدها.

ننزل، فنجد أبا عماد على كرسيّه الجلد في الطابق الأرضي. هو أيضاً سيغادر غداً، بعد أن أخذ جميع جلساته، وتمّ توفير ذلك العلاج الثمين، إذ قدّم بسام الصالحي، زعيم حزب الشعب، ورقة لسلام فياض، فوقّع رئيس الوزراء على المبلغ، وهو 20 ألف شيكل، وتمّ الصرف.

أبو عماد مطمئن الآن. سيعود لغزة بلا مشاكل. والعلاج سيصله إلى هناك، مع أحد المرافقين العائدين، بعد يوم أو يومين.

يقول لنا: سنسافر معاً في سيارة واحدة.

أقول لأخي: هيا بنا. سأملأ عينيّ بتفاصيل القدس، قبل وداعها. لقد غيّرت انطباعي القديم عنها. فأنا لا أحب المدن الدينية عموماً، لكنني، بعد كل ما جرى، أشعر برابطة جدية متينة معها. إنها ضحية مثلنا. مدينة ضحية، على غرار: إنسان ضحية.

نخرج، ونذهب في جولة طويلة. لا نترك حيّاً أو حارة من حولنا. نتكلّم مع الناس. نسأل ونُجاب. أودّ شرب كل التفاصيل، فغداً سأكتب، وأخشى ضياع الكثير مما رأيناه وسمعناه. لا أثق بذاكرتي مطلقاً. وحين سأجلس إلى الشاشة، أعرف: .. لن يساعدني أحد.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009



المساهمون