أكتبُ عن آشبري (2/3)

أكتبُ عن آشبري (2/3)

31 يناير 2018
(جون آشبري، 1927-2017)
+ الخط -

كنتُ مأخوذاً بحياة بارميغيانينو منذ سنتي الجامعية الأولى، ولا أزال أجهل السبب. ولكون بونتورمو شخصية رديئة الطباع، انجذبتُ إليه أكثر. وفيما يتعلّق بالمَلَكة والذهنية النظرية، لم أزل أحسب أن العجوز ميكيل-أنجلو قد بَزَّ كلَّ الباقين. لكن ثمّة مسحة من الغموض المنحرف لدى بارميغيانينو جعلتني أتأثّر به طوال الحياة.

وحين وقَعتُ على قصيدة آشبري "صورة ذاتية في مرآة محدبة"، أدركتُ بأنني لم أكن الوحيد وأنه سيكون أكثر إمتاعاً أن أكتب عن جون آشبري، الذي حكى عن المبتدئين من المشعوذين الأسلوبيين، من أن أضيف مزيداً من الصفحات إلى ما قد كُتبَ عن الرجل الضئيل من بارما. كنتُ أتنقّل بحقيبة جلدية بنيّة مقلَّدة صينية الصنع، وفي داخلها احتفظتُ بكتاب مصوَّر عن الأسلوبيين الإيطاليين، ورزمة ورق لقصائد آشبري المصوَّرة، ودفتر مسودّة قديم مُهدىً من جدّي، وفيه بدأتُ تدوين الملاحظات عن الكتاب والرزمة معاً.

اقتصرتْ المحاضرات التي حضرتها على الأدب المقارن والأدب الروماني وأحياناً الأدب الإنكليزي. وسوى ذلك كنت أشرب البيرة في نفس المقهى في حالة انطواء ضمن الممرّ الموارب القريب من متجر كونيكس، قبالة نافورة الجامعة، حيث ثمّة مكان لتجمّع الطلبة مثلي، والسّكّيرين، وكلّ ذوي السمعة السيئة، مثل ذلك الشخص متوسط العمر بلحية ذقنه وشعره المربوط من الخلف، والذي كانت إحدى يديه مشوهة ربّما بسبب حريق، لكنها كانت عالية الأداء في رفع البيرة إلى فمه.

ترددتُ إلى ذلك الملهى الوضيع برفقة إيرينا، التي كانت تدرس الجغرافيا وترود المكان مع أصدقائها لشرب الصودا. كنتُ قد تعرفتُ إليها في Club A، ذات ليلة، أو فلنقل ذات صباح، حين أدّى الـ DJs شيئاً من الموسيقى الإلكترونية الراقصة وانضمّت هي، ولعلها كانت ثملة، إلى المحتشدين الذين كانوا يثب بعضهم في وجه الآخر ويصطدمون بالجدران. أطاح بها الراقصون إلى حائط وارتمت على الأرض. كانت وحيدة، فتوجهت إليها وساعدتها على النهوض من جديد. أحببتُ مسألةَ أنها لم تحوّل الأمر إلى مهرجان من الإطراء والعرفان.

أمسكت بيدي وقفزت معتمدة على قدميها. ثم طلبتْ أن أعيرها لفافةً. مضينا وجلسنا إلى طاولة. ابتاعت لي كأساً من بيرة البراميل، لأنني كنتُ مفلساً، وجلسنا صامتَين، أو بالأحرى محاطَين بالضجيج، لأنه سيكون من المستحيل أن يسمع أحدنا ما يقوله الآخر. دخّنّا وسألتني إن كنتُ أودّ مرافقتها سيراً وإيصالها إلى البيت. قلتُ إني أريد ذلك، لكن فقط حين يبثون الأغنية الأخيرة، لأن لديَّ شَعِيرة تقضي بأن أعمَدَ أنا "المتفرج على ذاتي" إلى "خرق القانون" أثناء قيام عاملات التنظيف بكنس الزجاجات المكسورة. أجابت بأن لا مشكلة لديها وإنها سوف تنتظرني. كان شعرها الأحمر قد انهمرَ على سترتها الزرقاء الواقية من المطر التي ارتدتها والياقة مرفوعة إلى الأعلى، بنفس الطريقة التي اعتاد كانتونا أن يلبس بها قميص فريقه لكرة القدم. وتحت السترة كانت البلوزة ضيقة الرقبة وشعار الجمَل الأحمر عند الصدر.

لم أولِها الكثير من الاهتمام، كنتُ راضياً بواقع أنني لن أضطرّ للتسكع وحدي حتى مطلع الصبح، وبالتجول في الطرقات بلا هدف إلى أن يحين وقت الذهاب إلى الجامعة أو مكتب الجريدة، أيهما يُصادف وتقودني قدماي إليه أولاً (بحسب الوجه الذي تستقر عليه العملة المعدنية على الأرض بعد قذفها في الهواء). بالإضافة إلى شكّيَ بأني أعجبت بتلك الفتاة ذات العينين الواسعتين كأعين شخوص الرسوم المتحركة، كإحدى اللواتي اعتدتُ رؤيتهن كلّ يوم في مقهى أرجنتين أو حين أقعد على جدار واطئ يحيط بنافورة الجامعة، رغم إدراكي بأنه لن تُكتَبَ لي فرصة النجاح معها.

على أية حال، أدّيتُ شعيرةَ "خرقي للقانون" وبعدها صعدنا من قبو النادي الليلي، مرتقياً الدرجَ الدوّار في إثرها. كانت ساقاها طويلتين وذلك ما بدد انطباعي الأول، الذي صوّرَها قبيحةً بكل ما لديها. في الخارج كانت الظلام لا يزال مهيمناً، لكن من البوليفار كان يمكنك سماع أصوات المدينة المستيقظة لتوّها. قالت إنها لا تسكن بعيداً، على سترادا أوسترولوي، ولذلك سألُتها إذا كانت مع فكرة احتساء كأس بيرة أخرى في سوفاتا، إن كان لا يزال مفتوحاً. أجابت بأنها تعيش في مسكن أخيها، كان متزوجاً ولديه طفل، ولن يحبّذ أن يضبطها عائدة إلى البيت مع انبلاجة الفجر، ولذلك فإنها ستحاول الانسلال إلى البيت والظلام لا يزال مخيماً.

قرب الجامعة، بعد أن عبرنا الطريق، متّجهَين إلى ساحة روزيتي، مدّت يدها لتمسك بيدي وقد أحببتُ ذلك، لأنه لم يحدث منذ أمد بعيد. لكن على الرغم من ذلك، قلت لها إني لستُ مهيّأً لعلاقة، إذ أنني صنف رديء من الناس، وأنني أكتب عن جون آشبري. فأجابت بأن لا مشكلة في الأمر، فهي أيضاً لا ترغب بإقامة علاقة، ثم مَن هو آشبري؟

- "لا أستطيع أن أتجشّم مشقة الشرح في هذا الوقت".

تابعنا سيرنا صامتَين ثم بدأتُ أشعر بأنني لستُ على ما يرام، لأن الكحول كانت تتلاشى من جسدي وكنتُ جائعاً ومُقبِلاً على نهار آخر عليَّ أن أجريَ خلاله ذاهباً آيباً بين الجامعة ومكتبيّ الصحيفتين، اللتين سأغادرهما ربما إلى بيت أمي فأستريح ليومين أو ثلاثة. انعطفنا يميناً، سرنا على سترادا أوسترولوي وتوقفنا أمام سور حديدي مرتفع، مطليّ بالأخضر، ووراءه يمكن للمرء أن يلمح ما يشبه فيلا هائلة الضخامة. تبادلنا أرقام الهواتف، فربما نتواصل، واتّفقنا على أن يُعْلِمَ أحدنا الآخر مباشرةً حين يلتقط خبراً عن سهرةٍ ما في المدينة.

- "من فضلك، هل يمكنك إقراضي بعض النقود ما يكفي لزجاجتيّ بيرة إلى أن نلتقي المرة القادمة؟ عليَّ التسكع حتى يحين وقت ذهابي إلى العمل وليس لديّ شيء آخر لكي...".

نقّبت في جيوبها وناولتني بعض المال بتلك البساطة التي بدأتُ أحبها فيها.

- "خذ....".

تقدّمتْ مني وقبّلتني برقّة على طرف فمي. في الحال أحسستُ بانتصاب لديّ، ما سبّب لي الضيق، لأنه لم يكن باستطاعتي أن أشوّشَ نفسي برغبتي الجنسية في تلك اللحظة. أحطتُ كتفيها بذراعيّ واتجهتُ عائداً إلى البوليفار. كان الضوء قد بدأ يطلع وفي برَكِ ماء صغيرة على الرصيف كان المرء بالكاد يلمح انعكاس مصابيح الشارع التي أُلصقت على أعمدتها إعلانات ورقية عن حفلٍ لفرقة "دان أرميانكا".

بطاقة: ولد Bogdan-Alexandru Stănescu عام 1979، وهو شاعر وكاتب ومترجم روماني، يعمل أستاذاً في جامعة بوخارست. له في الشعر: "حين، بعد المعركة، التقطنا أنفاسنا" (2012)، و"آناباسيس" (2015). وكتابا مقالات: "ما الذي يبقينا بعيدَين، رسائل من نزل مانوك" (الصورة، 2010)، و"أدخلِ الشبحَ، رسائل متخيَّلة إلى أوسيب ماندلشتام" (2015). ترجم أعمالاً لـ تينيسي ويليامز، وجيمس جويس، وساندرا نيومان، وألبرتو مانغويل.

* ترجمة: أحمد م. أحمد

 

دلالات

المساهمون