كيري جيمس مرشال: أفريقيو أميركا يتسيّدون اللوحة

كيري جيمس مرشال: أفريقيو أميركا يتسيّدون اللوحة

11 ديسمبر 2016
مرشال، تصوير: ديفيد زويرنر
+ الخط -

يحتضن "متحف المتروبولتان" في نيويورك معرضاً استعادياً للفنان الأميركي من أصول أفريقية كيري جيمس مرشال. ويضم المعرض، الذي يستمر حتى الـ 29 من كانون الثاني/ يناير، أكثر من ثمانين عملاً، 72 منها لوحات فنية. ليس مرشال من الفنانين المعروفين في العالم العربي لكنه يستحق، دون شك، الاحتفاء به، حيث تؤرخ أعماله وبطرق مبتكرة، على طريقة الـ"ماستر" أو الأستاذ الكبير، فنياً لحياة السود الأميركان وتاريخهم السياسي والاجتماعي.

تحاكي أعمال مرشال الكثير من الأعمال الكلاسيكية في أسلوبها والمعرفة التقنية والمقدرة البارعة على تجسيد مواضيعه. ولا يتوقف عند محاكاة كلاسيكيات الفن ومدارسه الغربية بل يحاكي مدارس أكثر حداثة في بعض أعماله. مع الانتباه بالطبع إلى غرفه من فن القارة السمراء الذي ألهم أصلاً حركات ومدارس الفنية الغربية من خلال مجموعة من أبرز روادها.

المثير في تاريخ مرشال هو التناقض، الظاهري على الأقل، بين إدراكه العميق والواعي في ما يخص غياب السود من لوحات الفنانين الكبار في الفن الأوروبي/ الأميركي الأبيض، ناهيك عن تأريخه لحياة السود في الولايات المتحدة بصورة نقدية وبارعة من جهة، وبين حبه لهذا الفن ورؤيته لأعماله بأنها وإن لم تنتم تماماً لسياق وسلسلة تقاليد الفن/ الرسم الغربية إلا أنها كانت مجبرة على مواجهتها من الدخل من أجل تمثيل السود لا جعلهم مجرّد "موضوع".

عايش مرشال، والذي ولد في ولاية آلاباما عام 1955، حركة الحقوق المدنية التي اجتاحت الولايات المتحدة وقادها الأميركان من أصول أفريقية من أجل الحصول على حقوقهم الكاملة في ظل نظام التفرقة العنصرية الذي كابدوه طويلاً. ذاق مرشال تلك التفرقة كطفل ورصدت ذاكرته الكثير من حوادث القتل والهجوم على كنائس للسود وحرقها وقتل المدنيين على يد عنصريين بيض. هذه الذاكرة الفردية والجمعية هي التي يستقي منها لوحاته ويستعيد من خلالها بعضاً من الحوادث المفصلية.

في واحدة من لوحاته المؤثرة يرسم الفنان بورتريهاً لنفسه مستوحى، كما يقول في أحد لقاءاته، من رواية رالف إليسون "رجل غير مرئي" (صدرت 1952) والتي تجسد حياة رجل أسود في الولايات المتحدة وكيف يبقى غير مرئي للأغلبية البيضاء. تعد الرواية من كلاسيكيات الأدب الأميركي التي تظهر معاناة السود والعنصرية ضدهم. وفي اللوحة، التي أنجزها عام 1980، يرسم مرشال بورتريهاً ذاتياً لأنا سابقة له. فيصوّر ملامحه وبشرته بلون أسود غامق مع خلفية سوداء كذلك، تؤدي إلى شعور بالارتباك عند المتأمل لصعوبة قراءة ملامح الشخص فتجعله مُضطهداً، غير مرئي، من قبل ذاته نفسها. وبذلك يصور الاغتراب الذاتي عند المضطَّهدين ومراحل عديدة يمرّ بها الشخص في ما يخص الهوية الفردية وانتماءاته. تلعب الصورة كذلك على الصورة النمطية والعنصرية التي كان يُصوَّر بها الأميركان من أصول أفريقية كأشخاص مبتسمين دائماً، يلعبون دور "المهرج" في نظر الآخر "الأبيض"، أي الأميركي من أصول أوروبية.

لا يؤرخ مرشال في لوحاته المركبة لنضالات ومآسي السود الأميركان فقط، بل يأخذ اليومي ليحاكي كذلك الأعمال والمدارس الكلاسيكية على طريقته. في إحدى لوحاته الشهيرة، والمعروضة ضمن المتحف، يصور فيها واحداً من الأماكن المركزية في ثقافة الأميركان من أصول أفريقية ألا وهو "الحلّاق". ولا يلعب الحلاق في ثقافة الأميركان البيض تلك الأهمية كما لدى الأميركان من أصول أفريقية (والتي نعرفها في العديد من المجتمعات العربية) وفي سياقه الاجتماعي والدور المميز للحلاق ومكان الحلاقة.

في لوحته التي حملت عنوان "De Style" يتحاور مرشال مع حركة الرسم الهولندية التي ظهرت بدايات القرن العشرين (1917- 1931) في أمستردام وحملت اسم "De Stijl" بالهولندية ولم تقتصر على الرسم بل ذهبت إلى التصاميم المعمارية واليومي كالأثاث وحتى الموسيقى، وإن كان تأثيرها هناك ضئيلاً جداً، وعكفت فكرياً وفنياً على تجميل اليومي وجعله متناسقاً واستخدام الألوان الأساسية.

يحاكي مرشال في لوحته بعضاً من مبادئ الحركة في الخطوط والألوان وتجميل اليومي والموضوع ولكنه يذهب مجدداً إلى أبعد من ذلك في الحركة والجماليات. ومن المثير في لوحات مرشال لعبة الألوان الحادة، حيث الأحمر والأسود والأزرق وغيرها تتوزع في اللوحة بطرق كلاسيكية تحافظ من جهة على مسألة النسب في ما بينها ولكنها تعود لتكسرها من خلال إبراز كل لون بشكل مستقل.

واحدة من لوحاته البارزة بعنوان "بورتريه ناد تيرنير مع رأس سيده" وأنجزها عام 2011، وهي من اللوحات النادرة التي يظهر فيها شخص أبيض. يتناول فيها حياة ناد تيرنير الذي عاش ما بين 1800 و1831، وقاد ثورة في ولاية فرجينيا ضد استعباد السود، قُتل خلالها بحسب أرقام رسمية حوالي 65 أبيض، وأُعدم أكثر من 55 ثائراً أسود كما قُتل أكثر من 200 شخص أسود في أعمال انتقامية من قبل بيض يمينيين دون أن يكون لهم أي يد في الثورة. بعد إخماد الثورة بشكل وحشي قُبض على ناد تيرنير وأعدم.

ليس فن مرشال فناً اعتذارياً بل إنه ينبع من موهبة خاصة تثريها المعرفة والوعي بتاريخ شعبه وفنونه. إنه الفنان المتمكن من أدواته الذي يؤرخ بصورة مبدعة لمسيرة شعب مضطهد.

المساهمون