"كليلة ودمنة": خوسيه ماريا ميرينو في أثر ابن المقفّع

"كليلة ودمنة": خوسيه ماريا ميرينو في أثر ابن المقفّع

13 اغسطس 2016
(من مخطوطة "كليلة ودمنة"، المكتبة الوطنية/ فرنسا)
+ الخط -

البحثُ عن نبتةٍ تبعث الموتى أحياءً في الهند كان عاملاً أساسياً ساعد على ميلاد الأدب الإسباني واستلهام الآداب الأوروبية للحكايات والخرافات على لسان الحيوانات. هذه الحكايات الهندية التي تعود إلى ما قبل أكثر من 1500 سنة، والتي جُمعت تحت عنوان "كليلة ودمنة"، وقام عبد الله بن المقفع (724 - 759) بنقلها إلى العربية، ارتحلت إلى شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثالث عشر الميلادي، حين أمر ملك قشتالة، ألفونسو العاشر (1221 - 1284)، المعروف بلقب "الحكيم"، بترجمتها إلى القشتالية، فكانت أوّل عمل من وحي الخيال يُنشر بتلك اللغة.

ومن المعروف أن ألفونسو العاشر، الذي تذكُره المدوّنات الإسلامية باسم "الأذفونش"، انفتح على الأدب والفكر الشرقيَّين. ورغم خصومته السياسة مع المسلمين، فقد بلغ الاهتمام بالثقافة الأندلسية والإسلامية ذروته في عهده الذي شهد بروز "مدرسة طليطلة للمترجمين"، التي ضمّت مترجمين من ثقافات ولغات متعدّدة، وساهمت في وضع اللبنات الأولى للأدب القشتالي.

اليوم، يعود "كليلة ودمنة" إلى لغة ثيربانتس في طبعة جديدة أنجزها الروائي والقاص والأكاديمي الإسباني، خوسيه ماريا ميرينو (1941)، لتؤكّد بأن الحداثة تكمنُ في قدرة الأثر الأدبي على اختراق الزمن وتحقيق راهنيته في كل عصر، أو كما يقول مترجم الطبعة الجديدة من الكتاب "الحداثة تكمن في تحقّق الزمن خارج الزمن".

خلال القرون المنصرمة، يبدو الكتاب وقد تعرّض في إسبانياً إلى نوع من التعتيم الذي يشبه الكسوف، فتحوّل إلى عمل أثري يُقرأ قراءة أركيولوجية، بسبب قلّة طبعاته، وما اعتراها من نواقص، لعلّ أبرزها الصياغة اللغوية التي أفقدته التحيين والحياة.

أنجز ميرينو صياغة لغوية معاصرة وجديدة للعمل وفّرت له شروط الوضوح والقابلية للمقروئية والتداول بين المهتمّين بالآداب. كما أرفق الطبعة بثمانين رسماً توضيحياً. وحسب قوله، فإن العودة إلى الكتاب تأتي في حقبة تشهد على "حرب وحشية معلَنة ضد الآداب والعلوم الإنسانية".

في أحد حواراته الصحافية، على هامش تقديم الكتاب، قال ميرينو: "حين تستوعب هذا الصنف من الأعمال، التي أصبحت تُفتقد اليوم، تشعر بالمتعة؛ لأنها تتحدّث عن سلوكاتنا وممارساتنا الراهنة، وإن كانت ترتهن إلى تقديمها كتحف قديمة. إن الحفاظ عليها مسؤولية عامّة، مثلما هي مسؤولية خاصّة في الآن ذاته".

استغرق الكاتب ثلاث سنوات ونصف لإعادة صياغة العمل الذي شدّه منذ أن قرأ، في طفولته، حكاياته التي صاغها الكاتب الإسباني فيديريكو كارلوس ساينث دي روبليس (1898 – 1982): "حين حاولتُ إعادة قراءة هذه الحكايات، اكتشفت أن ذلك كان شبه مستحيل بسبب ذلك الإحساس بواجب إبراز الاحترام المطلَق نحو نصوص لها مكانتها التقديرية. والواقع أن نسبة سبعين بالمئة من العمل لا يمكن فهمه أو استيعابه".

في العام والنصف الأخيرين، حاول ميرينو أن يتفرّغ بالكامل لإنجاز هذا العمل الترجمي التحييني، محاولاً الوصول إلى إعادة صياغةٍ لمجموع حكايات "كليلة ودمنة"، عن ذلك يقول "هذا الإنجاز، حتى وإن لم يكن عملاً متخصّصاً، فإنني كقنّاص ورجل آداب، ليس من واجبي البتّة أن أحترم، بطريقة شكلية ومطلقة، نصّاً يعسر على القارئ فهمه واستيعابه".

يجمع الكتاب أكثر من سبعين حكاية تترابط شخصياتها بعلاقات متباينة ومتداخلة، أغلبها تنبثق من خلال أحاديث تجمع بين الملك دبشليم ومستشاره بيدبا. مع مرور القرون، أصبح العمل في نسخته الإسبانية متقادماً وغير قابل للاستيعاب بالنسبة إلى غير المتخصّصين في الآداب القروسطية.

وأمام صدور ترجمات متجدّدة له في بلدان أخرى مثل المملكة المتّحدة في القرن السادس عشر، وفرنسا في القرن التاسع عشر، دافع ميرينو عن ضرورة إعادة الحياة إليه؛ لأن "راهنية الكتاب ولازَمنية ثيمات محكياته، التي تتحدّث عن القضايا نفسها التي نحياها اليوم، تفرض مثل هذه الالتفاتة، فالشغف الذي نعثر عليه فيه هو نفسه، والأهواء هي ذاتها. إنه عالم من الشح والجشع الرهيب، ثمّة محتالون ومزيّفون، وأناس يريدون أن يتسلّقوا لبلوغ مقام المقرّبين في حاشية الملوك، وآخرون ينقضون صداقاتهم بسبب الخيانات وانعدام الوفاء".

غير أن "عضو الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية"، حين سُئل عن إمكانية إصدار طبعة مدرسية للكتاب، استبعد ذلك، معللّاً بأنه "ليس عملاً موجّها للأطفال، ففيه تعثر على شخصيات مختلفة: عاهرات وقوّادات وقتلة لآبائهم". "لكن، هذا لا يمنع من دعوة الشباب إلى قراءة العمل ابتداءً من سن الرابعة عشر، من دون ممارسة أي شكلٍ من أشكال الرقابة".

ميرينو لم ينس، خلال لقائه مع الصحافة، أن يذكّر بما قام به أندريس ترابيييو مع عمل كلاسيكي آخر هو "دون كيخوتي دي لا مانشا"، حين قام بتحيين لغته وتجديدها وتكييفها مع اللغة المحكية في الزمن الراهن، مشيراً إلى ضرورة القيام بمثل هذه المراجعات الأساسية.

يُعدّ خوسيه ماريا ميرينو أحد أبرز الروائيين الإسبان. بعد أن تفرّغ للكتابة عام 1996، وصلت إصداراته إلى قرابة خمسين كتاباً توزّعت بين البحث الأدبي والأعمال السردية؛ من بينها: "ثلاثية الأسطورة" وثلاثيته عن اكتشاف أميركا "اليوميات الخلاسية". حاز على عدّة جوائز من بينها "الجائزة الوطنية للسرد" عن روايته "نهر عدن"، و"الجائزة الوطنية لأدب الأطفال والشباب" عن "قطارات الصيف" و"أنا لست كتاباً".


المساهمون