"زج زج": استعراض ما جرى محوُه

"زج زج": استعراض ما جرى محوُه

29 يونيو 2016
ثلاثة مشاهد من العمل، تصوير: رود غيلنز
+ الخط -

ليس نادراً في الفن استلهام تجارب تاريخية موثقة عن وقائع من أزمنة سابقة جرى نسيانها أو الانشغال عنها. المسرح ليس استثناءً، ولكن قلّما نجد ملامح مجهود استقصائي في الكشف عن حوادث حُذفت عمداً من التاريخ وصارت في طي النسيان الفعلي، كما تفعل الرواية أو السينما.

مسرحية "زج زج" التي عُرضت مؤخراً في "مركز الجيزويت" في القاهرة، من إخراج ليلى سليمان، كشفت عن وقائع أحداث اغتصابٍ وسلب وقتل ونهب وقعت في قرية نزلة الشوبك (محافظة الجيزة) عام 1919، ليس من خلال كتب التاريخ المصرية أو الوثائق، لأنها تخلو تماماً من ذكر الواقعة وملابساتها، بل من سجلات وزارة الخارجية البريطانية التي وثقت التحقيقات مع سيدات تعرضن للاغتصاب من قبل جنود بريطانيين إبّان الاحتلال البريطاني لمصر في عشرينيات القرن الماضي.

المسرحية أدتها خمس ممثلات (نادية أمين ومنى هلا وريم حجاب وزينب مجدي ونانسي منير) قمن بأدوار الضحايا المتعرّضات للاغتصاب، وأدوار المحققين أيضاً، في عرض تمثيلي اتسم بسرد الشهادات مع الاستعانة بالأداء الجسدي كلغة لتجسيد معاناة الانتهاك الجسدي والنفسي، الذي تعرّضت له الضحايا.

تصوّر المسرحية أهالي نزلة الشوبك ليس على أنهم مجرّد فلاحين منشغلين بقراهم، بل باعتبارهم أيضاً ثواراً على أرض الواقع يقطعون مراراً خطوط السكك الحديدية التي يستخدمها الإنكليز وحدهم في التنقل لنهب محاصيل الفلاحين، ويقطعون خطوط التليفونات كرد فعل احتجاجي على استعمار بلادهم ورفضهم وجود المحتلين.

في الوقت الذي كان فيه بيان نداء الأمة المصرية عام 1919 يناشد الشعب المصري بـ"عدم الاعتداء على الأجانب" (24 آذار/ مارس 1919) بالقول "نناشد الشعب المصري باسم مصلحة الوطن أن يجتنب كل اعتداء، وأن لا يخرج أحد في أعماله عن حدود القوانين حتى لا يسد الطريق في وجه كل الذين يخدمون الوطن بالطرق المشروعة، وإننا شديدو الرجاء في أن الأمة المصرية بما عرفت من العقل والرويّة تصغي إلى هذا النداء وتلزم طريق الحكمة في سلوكها".

"زج زج"، والتي تعني "نريد جنساً" بالعامية المصرية لذلك الوقت، أعادت الكلمة للضحايا، لتربط بشكل أو بآخر تلك الجرائم، بجرائم تتعرّض لها المرأة المصرية في وقتنا الحاضر، وكذلك الثوار في ميادينهم؛ مما يدفع إلى حالة من التوحش، ما دامت المحاكمات التي تجري غير عادلة وما دام الجاني ينعم بجريمته دون عقاب.

يمكننا اعتبار العرض المسرحي، وإن قام على سرد شهادات ووقائع محاكمة مرّ عليها قرابة المائة عام، هو إعادة محاكمة من جديد، ليس فقط للضحايا والمحققين، بل إعادة محاكمة لزعماء مصر في ذلك الوقت، حينما لم يوظفوا هذه القضية ومثيلاتها في الخطاب السياسي لاستقلال مصر، وصمتوا في وقت لاحق عن القضية بعد أن رفضتها المحكمة البريطانية، وبرّأت جنودها، وجرى محو التحقيقات العربية من سجلات مديرية أمن الجيزة، وجرى إخفاء وقائع الحادثة من "الكتاب الأبيض" البريطاني الخاص بعرض الوثائق التي تتضمّن تقرير السياسة البريطانية في مصر والذي كان يقدّم للبرلمان البريطاني للنظر بها.

كما تتساءل المسرحية: ماذا لو كانت السيدات اللاتي تعرضن للاغتصاب من سيدات المجتمع الراقي أو زوجات الزعماء الوطنيين، ولسن فلاحات بسيطات من قرية نزلة الشوبك؟ هل كان سيتم تمرير القضية من قبل زعمائنا الوطنيين بهذه البساطة؟

المسرحية لم تكشف فقط ما جرى في ليلة 30 – 31 آذار/ مارس 1919 الممتلئة بمشاهد الاغتصاب والنهب والحرق والقتل، بل فتحت أيضاً على أسئلة كثيرة، منها لماذا تم طمس وقائع قرية نزلة الشوبك؟ وهل هي الحادثة المأساوية الوحيدة التي طُمست عمداً في التاريخ المصري خلال فترة الاحتلال؟ ولماذا صمت زعماء مصر، أمثال سعد زغلول ومصطفى كامل، وسيدات الحركة الوطنية والنسوية، أمثال صفية زغلول وهدى شعراوي؟ كما تلفتنا إلى كثير مما يحدث الآن.

المساهمون