نثر عفيفي مطر.. مسبحة من الأصوات

نثر عفيفي مطر.. مسبحة من الأصوات

28 يونيو 2014
+ الخط -

يحتشد صوت محمد عفيفي مطر (1935-2010) بذوات متشابكة، ووعي مفارق للحظته الزمنية. الشاعر المعجون من طميها كان يشبه الأرض، وكانت تشبهه، كانا ندّين جليلين على عتبات الخوف والبهجة في آن. الشاعر الذي لا يشبه إلا نفسه كان جديراً بعصابة العين التي لازمته أيام حبسه في التسعينيات ليفتح بصيرته "على مد الحصيرة والمواويل"، يعرف المواقيت بحدس الموجودات من حوله، وكان غيابه هائلاً كحضوره، وموته مسألة من مسائل الجمال. وما نعثر عليه في شعره، نجده مضاعفاً في أعماله النثرية التي لم تقرأ بما تستحق من اهتمام، ولعلها غير معروفة لدى من تسنت لهم قراءة بعض شعره أو السماع باسمه الذي طالما حجبته المؤسسة الرسمية.

"كان قلبي معلّقاً بين مخالب طائر جارحٍ محموم بالسياحات في الأعالي، علوّه فزعٌ ورعب، وانطلاقاته كارثة الاحتمالات، ومناوشاته لعبٌ فوضويّ بين الأمل والموت، وكلما حطّ ليستريح نفّرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرّة والغربة الفسيحة".

عفيفي مطر كاتب النثر الخفي، كان يخفي في طيات قصيدته حكياً، يعرف أن الحكاية الواضحة محض هباء ملوّن، وأن القصيدة عابرة لزمنيتها إلى أزمنة تصفّي منها خلاصة الحكاية.

كان "أوائل زيارات الدهشة" كتاب سيرته الذاتية النثري، لحظة إنسانية خالصة من البوح، عبور برزخ بين جسده العجوز وقتها، وطفولة تهدهدت تحت كنف أمومة امتزجت بالترتيل، ومنحته طاقة الجمال دون حاجة إلى التعريفات الباذخة. كان البذخ مختبئاً في التفاصيل، و"ثلج الجيم المعطشة" يفتح سخريات أقرانه الصبيان على سلامته اللغوية.

نعرفُ أن السيرة الذاتية لحظات بوح منتقاة من وعي يريد أن يقول شيئاً ما، ولاوعي يبرّئ كيانه من همّ الذكريات؛ ذكريات عفيفي مطر كانت تبحث عن بدايات الشعر في صوت أمّه المرتّل للقرآن، عن حمّى الجسد في حضرة محمد حسن إسماعيل، الشاعر الهادر فوق رومانسية ضيقة وكلاسيكية صارمة.

حاول مطر أن يفصّل الحكاية ويختزل الوجود، فكان أن اختزل الحكاية وفصّل الوجود، وجوده ووجودنا. لعبٌ حرٌ بلغة خرجت من جحيم معاجم بليت بالتكرار الممل، كان مطر يخلّي بينه وبين اللغة صراطاً، حتى همّت به وهمّ بها، فرأى برهان قصيدته ماثلا في الحكاية كما أرادت، لا كما أراد.

"لا تلقِ بقيـادك ولا تطأطئ بولائك إلا لأشد الأشياء هشاشة وضعفاً: حشرة طنانـة، أو طحالب بركـة، أو بيضة طائر، أو رائحـة عرق، أو دمعــة مقهـور".

الهشاشة التي سكنت تحت جلده، مكّنته من امتلاك الدهشة على هيئة قصائد محمومة، أراد في سيرة الطفولة أن يقول: ها أنا دون خوارق في التكوين، دون معجزات في النشأة غير الخيال، كنتُ فلاحاً يحرث الأرض واللغة، ويبتعد عن توافه الكلام واليومي الصغير. الهشاشة هي امتلاك الذات وتماهيها مع الجمال الكامن، كمونه عصيّ على محبّي المقولب والجاهز. لا يقدر على محبة البوح إلا من امتلك نفسه، وقد امتلكها عفيفي مطر.

"كنت أقلب صفحات الأطلس العجيب فأسمع وأرى وقائع السيرة الذاتية للأسلحة، أعجب السير الذاتية على الإطلاق وأتساءل بانبهار الحيرة: من يخلق الآخر ويقوده السلاح أم الإنسان؟ وكلما رأيت وسمعت أهوال الانحسار والابتلاع المتبادلين وانتقال الخطوط والألوان في دوي الانتصارات والهزائم، ازددت يقينا أن الأرض ذات قلب ورئتين، تنبض وتشهق وتزفر في أحوال من القبض والبسط العجيبين المنضبطين على إيقاع الأسلحة وضربات القرار والجواب في موسيقى التهليل بالنصر والأنين الدامي بالهزيمة".

الروح المعاندة التي ملأته، والتمرد الذي كلّفه عصابة على عينيه طوال فترة حبسه الآثمة في سجن "طرّة" رافضاً التدخل الأمريكي في حرب الخليج الثانية؛ كل ذلك لم يكسر من روحه ولا جسده، إلا بمقدار قشرة من الدم والصديد على أنفه، علامة على تجبّر الدولة وفجورها، إنسانيته لم تنحز إلى سياسة بل إلى الإنسانية.. كتب عفيفي مطر كتابه النثري ليحكي سيرته، لنكتشف أن في سطور السيرة سيرتنا نحن:

"كانت أمه جليلة الجليلات تستعيد الاستماع إلى ما حفظ ابنها من قصار السور‏، صعوداً إلى السور الطويلة‏،‏ ومن جزء عم إلى جزء تبارك‏، وتصحح بصوتها الرخيم ووجهها المضيء بالفرح‏، وعينيها المسبلتين المتبتلتين ما يخطئ فيه‏.‏ كان الإيقاع الجليل بصفائه يشمل كل شيء‏.‏ وكانت الدنيا كأنها مسبحة أخاذة من الأصوات والانسجام المحكم‏.‏

ثم ذهب الولد إلى الكتّاب وحين أخذ مكانه على الحصيرة بين جماعة المبتدئين انتبه مفزوعاً مرتعباً على صوت‏ "سيدنا" وهو يعنف امرأته وابنته الشابة وهما وراء الباب‏،‏ ثم علا صوته الأجش الغليظ بآيات قصار السور فقال الولد لنفسه‏:‏ لا بد أن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال واكتشف أن كل ما حفظه من قبل قد سقط من ذاكرته‏.‏ فبكى!

وأمسك الولد مرة بكتاب أخذ يقلّب صفحاته واحدة واحدة، وهو يبلل أصابعه بريقه ويحصي بصوت مسموع‏:‏ آدي واحد‏.‏ آدي اتنين‏.‏ آدي تلاتة‏...‏ إلخ. وفجأة ظهرت أمامه صورة قربها من عينيه ليري أدق تفاصيلها‏.‏ كانت الصورة لفتاة صغيرة مهلهلة الثياب‏، تبكي وتولول تحت نعش يحمله رجال أربعة‏.‏ فشق صراخها قلب الولد وامتلأت عيناه بالدموع‏، وهبّت من صفحات الكتاب لوعة متربة مازال يشمها منذ ذلك الزمن البعيد‏،‏ يشمها وهو يلملم الدموع من الكتب ويتشقق صدره لصرخات الموتى والأحياء"‏.‏

لم يغب الشعر عن نثر مطر، لكن كفت الدهشة عن زيارتنا حين واراه التراب، ولم ير الثورة المصرية وهي تقوم ثم تسرق.

* شاعر من مصر 

المساهمون