عصافير الواقعية القذرة

عصافير الواقعية القذرة

23 يناير 2017
("واقعية قذرة"، سباستيانو لو تورسو، إسبانيا)
+ الخط -

قبل أيام، نشر القسم الثقافي في جريدة "إلباييس"، مادة عن الروائي البوليفي غونزالو ليما (1959)، بمناسبة فوزه بجائزة الرواية في إحدى المدن الكتالونية، قال فيها إنّ "الرواية السوداء" أو ("الواقعية القذرة") هي "نسخة عن بالوعة الواقع" ـ وأضاف ـ إنها "مشرط عصرنا".

وبهذه المناسبة، تذكرت توقعاتي، أو قل رغبتي المرتجاة قديماً، أن يكون المستقبل في الرواية العربية لهذا التيار الجديد من السرد. فمثل واقع كهذا متشظّ وهذياني لا تليق به إلا هذه المدرسة. لكنني أعرف، أن التوقعات تصيب تارة وتخيب طوراً، مع التنويه إلى أنّ الواقع العربي هذياني ـ صحيح، لكنّ الكتابة هي نظام في نظام.

بمعنى ثان: كنت آمل ـ ولا أزال ـ فيما لو كُتب هذا النوع من الواقعية عندنا، ألا ينحدر إلى مستوى الرواية البوليسية المثيرة فقط، بل أن يحافظ بالقدر الأقصى على ما يجعله أدباً في المقام الأول والأخير (مع أن لا أحد منا يعرف في الحقيقة ما هو كنه الأدب الحقيقي. وما الذي يجعل من هذه القطعة أدباً، ومن تلك أيَّ شيءٍ آخر غير الأدب. فقصارانا فحسب أن نقرأ فنميّز الغث من السمين)!

بمعنى ثالث: ألا تكون الواقعية القذرة ـ كما يشي اسمُها ـ مجرد انعكاس مرآوي للواقع الفاقع. فالواقع، حتى في المرآة، يبدو مستحيلاً. "يدك اليمنى تصبح في المرآة هي اليسرى"، كما قال سارماغو، في سياق مشابه، ذات يوم.
بمعنى رابع: لا بد من التخييل في جميع أنواع الكتابة الأدبية، وليست الواقعية القذرة مستثناة أو بمعزل.

أقول هذا، وأنا أتابع حراك آداب اللغة الإسبانية، وكيف أن هذا التيار من الكتابة يجتاحه منذ سنين، ويتقدم شعبوياً، فيحوز الجوائز ويُحوّل إلى سيناريوهات، بل يكاد يستحوذ على قسط غير يسير من الإعلام الثقافي المحترم، مع التذكير بأني سابقاً كنت أنتظر وأتمنى سرداً جماعياً عبثياً يكتبه روائيونا، ليقابلوا به عبث واقعهم. غير أني لاحظت أن من اجترح هذه النوعية من الكتابة وقع ذهنياً تحت تأثير موجة العبث الغربية التي سادت بعد الحرب الكونية الكبرى. أي خرج عبثنا العربي ـ وعبثُ واقعنا أصيل، بل شديد الأصالة والخصوصية ـ بسمت أوروبي زائف.

فإن كان ولا بد، فالواقعية القذرة أولى بمجهودنا الأدبي من تيار العبث الذي زال تقريباً في الغرب، حين تلقيّنا نحن أصداءه متأخرين كالعادة، وحاول بعضنا تقليدها (تماماً كما هو شأننا مع النظريات النقدية، وسواها).

لا، الواقعية القذرة ألصق بنا وأولى من ذاك العبث.

وبعيداً عن التعبير الفج والفظ لغونزالو ليما، يتوجّب إزجاء التقدير ولو متأخراً لمن كتب الواقعية القذرة عربياً، فأتى بمنتوج إبداعي صميم. وأخص بالذكر منهم إبراهيم أصلان، في روايته التجريبية الباذخة "عصافير النيل". فهي الرواية التي اعتبرَها هو "أفضل ما كتب"، وأعتبرُها أفضل ما قرأت في مجالها حتى اليوم.

المساهمون