لماذا نقرأ ياقوت الحموي؟

لماذا نقرأ ياقوت الحموي؟

13 ابريل 2020
استسلام الفرنجة لصلاح الدين بعد معركة حطين(لوحة لـسعيد تحسين،1954)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في قراءاتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.


دون تخطيطٍ مسبق، انخرطتُ في القراءة والكتابة منذ عامين بكلّ ما يخصّ المؤرّخ والجغرافي ياقوت الحموي (1179 – 1229 م)، لاعتقادي بأنه علامة رئيسية وتراجيدية في الثقافة العربية، حيث أؤتي به طفلاً في الخامسة، وبِيع في أحد أسواق النخاسة ببغداد، ومن حسن حظّه أن اشتراه عسكر الحموي وربّاه في بيته، وعامله معاملة الابن، حتى سلّمه تجارته، فطاف برحلاته بلداناً عدّة استثمرها بالتعلّم والاكتشاف، وقد أتيح له في هذه الأسفار الهرب لكنه كان يعود في كلّ مرّة إلى سيّده.

أواظب على قراءة مؤلّفيْه "معجم الأدباء" و"معجم البلدان"، وكلّ ما يقع بين يديّ في محاولة لتوظيف هذه التراجيديا الشخصية في الإجابة عن أسئلة كانت مطروحة سابقاً ولا تزال، ومنها كيف تعامل مع الهجمة المغولية على العالم العربي بوصفه مثقفاً ورحّالةً.

وكيف واكب أيضاً حكْمَ الأيّوبيين في مدينة حلب، مستحوذاً عليّ التساؤل لماذا بذَل صلاح الدين الأيوبي كلّ هذا الجهد في محاربة الفرنجة، ما دام أن أبناءه وأحفاده تساقطوا واحداً واحداً أمامهم، وأقاموا معاهدات مع أعدائهم للحفاظ على ملكهم، في خضمّ خلافاتهم مع أقاربهم وأبناء عمومتهم، دون أن نغفل أن البيت الأيوبي كان من أقوى البيوت في التاريخ العربي، ووصل حكمهم إلى مناطق واسعة من ليبيا وصولاً إلى العراق، لكنه انهار خلال حوالي سبعين عاماً فقط.

وأقرأ في هذا السياق كيف أنّ مصر، على سبيل المثال، ورغم استعانة صلاح الدين بالحركات الصوفية للتخلّص من إرث الفاطميين، إلا أن روحها الشعبية ظلّت فاطمية حتى اليوم، وأرى أن هذه الشخصية التاريخية تحتاج إلى إعادة قراءة، إذ تمّ إعلاؤها في الوجدان العربي وطُمست جوانبها الإنسانية.

ياقوت يمثّل محوراً لمروحة أحداث كانت تعصف بالوطن العربي، إذ واكب خليفة عباسياً قوياً جداً هو الناصر لدين الله الذي تحالف مع صلاح الدين وكان لدعمه وتأييده دور كبير في تقوية موقف الأخير، لكنه في الوقت نفسه بعث إلى جنكيز خان يستعديه على الخوارزميين، ولم يخطر بباله أن رسالته ستتسبّب في تدمير بغداد بعد أعوام.

عاش ياقوت الحموي جملة مفارقات أتت في سياق مدّ شعبي ورسمي للتصدّي للفرنجة، وكان صديقاً للمؤرّخ عز الدين بن الأثير (1160- 1233 م) الذي وثّق الحروب التي خاضها ضدّهم صلاح الدين، وكان ياقوت مضطراً إلى التعامل مع هذا الواقع، الذي تحدّث عنه ابن جبير (1145 -1217)، أحد أبرز الرحّالة المعاصرين له، بقوله إن القوافل التجارية بقيت تسير في الاتجاهين، تدخل وتخرج، رغم اشتباك المسلمين والفرنجة في أرض المعركة، ومقارنته كذلك بين العدل في بلاد الفرنجة والظلم في بلاد المسلمين على يد موظفي الجمارك الذين يفتّشون متاع الحُجّاج ويأخذون الذهب والمال تحت حدّ الرماح.

كان ياقوت الحموي يعبّر عن كلّ ذلك بطريقته الخاصة في "معجم البلدان" و"معجم الأدباء"، ويتناول الأحداث بأسلوب استعاري دون أن يسجّل عليه أحدٌ موقفاً، واتخذ الأوصاف التي أوردها ذريعة ليقول ما يريده سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً. وسيصدر لي كتاب قريباً بهذا الخصوص يشتمل على قراءاتي لتلك الشخصية باعتبارها انعكاساً لزمنها وأفكاره.


* كاتب وأكاديمي أردني

المساهمون