حداثة الروائي

حداثة الروائي

15 يوليو 2017
(مقطع من "لاعب القيثارة" لـ بيكاسو)
+ الخط -

حين يتحدث الروائيون العرب عن الحداثة أو ما شابهها من المفاهيم، يلجأ الكثير منهم في أغلب الأحيان إلى ما قرأوه عنها في الدراسات والبحوث، التي كتبها النقّاد والباحثون ومنظرّو النقد؛ أي أنهم يتبنون الخطاب الأكاديمي السائد، غافلين عن أمر أساسي وبديهي جداً، وهو أن الخطاب النقـدي وليد تجربة ما في الكتابة وليس العكس. هناك النص.

ثم يأتي الناقد ليقرأه. ومن خلال هذه القراءة، يجمع ملاحظاته التي يمكنها أن تشكل قاعدة لنظرية ما. دوستويفسكي كتب "الجريمة والعقاب" و"الإخوة كارامازوف" و"المقامر" بحدسه وجنونه. وفي ما بعد جاء ميخائيل باختيـن، وأسس استناداً إلى هذه الروايات، نظريته المشهورة عن "البوليفينية" و"الحوارية" و"الشعرية".

قليلون هم الروائيون العرب الذين يغامرون، ويحاولون تقديم ما يمكن أن يضيف شيئاً إلى هذه المفاهيم أو يضيئها أو يوسّع آفاق مقاربتها، استناداً إلى تجاربهم في الكتابة طبعاً. الروائي ليس ناقداً، وليس مطالباً بأن يكون له رأي في الحداثة أو غيرها من المفاهيم. لكن حين يقبل الخوض فيها، فمن الأجدى له ولقرائه، أن يقاربها بمنطق الروائي المبدع، وأن يقول تجربته في تعاطيه معها بصدق وحرارة وتلقائية، حتى لو فعل ذلك بما يمكن أن يسميه الباحثون والنقاد "فوضى" أو "عدم وضوح" أو "تناقضاً".

الروائيون الأوروبيون والأميركيون، لا يكررون مثل طلاب نجباء ما يقوله النقاد والباحثون، حين يكتبون عن هذه المفاهيم أو يتحدثون عنها في الحوارات التي تجرى لهم. والكثير منهم لا يقرأ الدراسات النقدية أصلاً، بالرغم من احترامهم للنقد والنقّاد. لذا فإن ما يقولونه يكون في أغلب الأحيان متميزاً، لأنهم ينظرون إلى هذه المفاهيم من الداخل، مما يجعل مقاربتهم لها مختلفة.

وفي ما يخـص مفاهـيم الحداثة والتجريب والتجديد، التي شغلت الكثير من الروائيين العرب في العقود الأخيرة؛ أرى أن كل كتابة حقيقية هي كتابة تجريبية بمعنى ما. التجريب كما أفهمه هو شرط الكتابة وجوهرها. بدونه لا تستقيم الكتابة. المشكلة هي كيف نفهم التجريـب وماذا نعني بـه؟ شخصياً لست مولعاً بما أسميه "التجريب البرّاني"، وأقصد بذلك هذا النوع من التجريب الشكلي الذي كرسه البحث الأكاديمي، والذي يتمثل أساساً في جملة من الحيل الأسلوبية والفنية، التي أصبحت منذ حوالى ثلاثة عقود رائجة في الخطاب النقدي العربي.

إلا أن الأهم من كل ذلك، هو أنني أفصل بين التجريب والحداثة. بين التجريب والتجديد. ثمة كتابات تجريبية لكنها ليست حديثة لأن "تجريبيتها" سطحية خارجية استعراضية. وثمة كتابات تبدو تقليدية وبعيدة عن التجريب بمعناه الرائج، لكن لو تأملناها لاكتشفنا أنها جديدة وحديثة.

شخصياً أعتبر "حدث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي مثلاً، نصاً تجريبياً قوياً بالرغم من أن لغته تراثية قديمة، ومناخاته تحيل في الظاهر إلى عالم لا ينتمي إلى عالمنا الحديث. وتجريبيته تتجلى في أنه محاولة ذكية وطريفة وعميقة، لتأسيس كتابة سردية عربية تقوم على شكل الخبر وبنيته، كما ورد في النثر العربي القديم، لا على النموذج الروائي "البلزاكي" الغربي.

وهذا الهوس بالتجريب، تولد عنه هوس بالحداثة وكل ما يرافقها من مفاهيم، كالقطيعة والتجاوز والمغايرة. هنا أيضاً يطغى الجانب الشكلي الخارجي في العمل الروائي، على الجوانب الأخرى الخفية المستترة، التي تنتمي إلى ما أسميه "ليل النص" وإيقاعه الداخلي وحركته الباطنية، وهو ما يكون أحياناً حاسماً في تحديد طبيعة النص ومقدار حداثته.

إنني أربط بين مفهوم الحداثة والقدرة على التقاط ما يميّز لحظة الكتابة؛ أي قدرة الكاتب على إيجاد علاقة قوية بين نصه والملامح الأساسية للعصر الذي كتب فيه. أن تكون حديثاً هو أن تقول "هنا والآن"، حقيقتك التي لن يقولها أحد بدلاً عنك. إن التجريب والحداثة والتجاوز، ليست برأيي حكراً على روائيي الأجيال الجديدة.

كل رواية تقول عصرها وتعرف كيف تصغي له، هي رواية حديثة إن وضعناها طبعاً في شرطها الثقافي الاجتماعي. وبهذا المعنى فإن روايات نجيب محفوظ مثلاً، التي يعتبرها الكثير من النقاد قديمة هي أيضاً روايات حديثة.

*روائي تونسي

دلالات

المساهمون