أبونا مارون.. نذر نفسه لله والإنسان

أبونا مارون.. نذر نفسه لله والإنسان

26 سبتمبر 2015
معاً.. نجترح المعجزات (حسين بيضون)
+ الخط -

"الراهب المواطن".. بهذا عرّف به "أصدقاء أبونا مارون" عندما أرادوا تكريمه. أما هو فشدّد حينها: "لولاهم، لما كان أيّ شي من كلّ ما كان".

بثيابه المدنيّة، راح قبل 20 عاماً، وتحديداً في خريف 1995، يتنقّل سيراً على الأقدام بين قرى المتن الشمالي (شمال بيروت)، ويطرق أبواب أهلها. هو الأب مارون عطالله الذي راح يقصد عائلات متنيّة ليشكرها على موافقتها استضافة شباب من جنوب البلاد وشمالها وغربها وشرقها، قبيل انعقاد مؤتمر "انتظارات الشباب" الأوّل، ويحاول إقناع أخرى - بروحه المرحة - بتأمين المبيت لآخرين.

الشباب اللبنانيّون بأكثرهم، لم يكونوا قد اجتازوا بعد ما كان يُعرَف بخطوط التماس التي أزيلت منها المتاريس العسكريّة في أواخر عام 1990، في حين كانت تلك النفسيّة والفكرّية لا تزال قائمة ومعزّزة. هم وُلدوا في مناطق مفروزة سياسياً وطائفياً، وكانوا يخشون من الآخر وإن كان مواطنهم. ولأنه يؤمن بالـ "نحن" وبأن "لا أحد جزيرة" وبأن "معاً نجترح المعجزات"، راهن أبونا مارون على أن جمع هؤلاء لا بدّ من أن يحدث "تغييراً"، تحت عنوان "لبنان مطلوب بناؤه... من أجل وطن يحلو العيش فيه".

حركة "انتظارات الشباب" لم تكن سوى محطّة في مسيرة أبونا مارون الطويلة. تلك المسيرة التي انطلقت من "أرضيّة صالحة" من ضيعته الليلكه في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، التي يفخر بأنها "مدرسة". ولا يملّ وهو يروي: "كنا صغاراً وكنا نحدث جلبة ونحن نلعب. وكانت والدتي أم وديع تصرخ بنا أحياناً كثيرة: وطّوا أصواتكم يا ولاد! وحجّتها أن في دير اللعازاريّة المقابل لمنزلنا، يصمدون القربان. ونخفض صوتنا. بعد قليل، تصرخ من جديد، بالتزامن مع الأذان. نسأل: ماذا الآن؟ فتردّ: الشيخ يصلّي. نحن ربينا على هذه الحال".

في عام 1928، ولد أبونا مارون ليكون واحداً من بين 12 ولداً في عائلة إلياس عطالله، توفي أربعة منهم "وبقينا ثمانية". وفي أواخر عام 1940، انتقل إلى دير مار أنطونيوس في بعبدا ليبدأ مشواره في الرهبنة. هل كانت دعوة؟ يضحك: "كان المطرح حلو، وفيه يتعلمون. أما فكرة أن أقبّل يد كلّ كاهن ألتقي به، فكانت تشغلني".

وانطلق في الكهنوت ليكون كما يصفه أصدقاؤه "راهباً مؤمناً بالله وبدعوته له، كاهناً إلى الأبد"، في حين بقي وما زال "إنساناً مؤمناً بإنسانيته وبالآخر، لا يعترف بالطوائف بل بعائلات روحيّة تلتقي حول الله الواحد والإنسان". ولأنه "يسكن لبنان ولبنان يسكنه"، ويؤمن بأن "التعدديّة في الوطن رسالة فريدة"، انخرط في حركات تسعى إلى تقريب المسافات بين مواطني الوطن الواحد منذ ستينيات القرن الماضي، حتى قبل أن تُرفع المتاريس. وفي عام 1994، "كنا نعتقد أن الأحداث انتهت، ولأننا كنا نعيش مع بعضنا بعضاً في الماضي، لا بدّ لنا أن نفعل ذلك مجدداً. وكان مؤتمر حول تجديد العيش المشترك، شارك فيه ناشطون من لبنان ومن بلدان عربيّة عدّة. في نهايته كانت صرخة: يا ريت كان فيه شباب".

بعد المؤتمر، "سألنا في مركز الدراسات والأبحاث المشرقيّة: أين هم الشباب؟ وأتت الإجابة: هم وراء كشّة الخضار، ووراء الحزب، والجامعة، والنادي. ودعوناهم، فشارك 2500 شاب في المؤتمر الأوّل لحركة انتظارات الشباب" التي استمرّت 15 عاماً. كان لقاءً استثنائياً، "واخترعنا شغلة، من أين أتينا بها؟ لا نعرف. سميناها: بيوت الصداقة". في وقت كان لا يزال الخوف قائماً بين اللبنانيّين من أبناء المناطق الأخرى، بات ابن النبطيّة (جنوب لبنان) عند ابن أنطلياس (شمال بيروت). وفي وقت لاحق، بات أبناء قرى جبل لبنان في النبطيّة، "وثبت أن الأهمّ هو بيوت الصداقة. هي كانت كفيلة بالإبقاء على روابط اجتماعيّة".

عشيّة المؤتمر الأوّل، اتّصل أبونا مارون بمنصور الرحباني. "قلتُ له: 2500 شاب سوف يحضرون لعندك إلى أنطلياس. نريد نشيداً لهم. هل تفعل أنت أم أذهب إلى غيرك؟ وأقفلتُ الهاتف". وكان النشيد: "دقّت الساعة.. موعدنا التغيير". لا ينسى أبونا مارون أياً من الذين نشطوا معه في يوم، ولا يحبّ التحدّث عن نفسه بل عن الإنجازات التي "حققناها معاً" في أطر اختلفت تسمياتها. هو لا يتكلّم إلا بصيغة "نحن". بالنسبة إليه، هي "تسبق الأنا"، ويصرّ على أنه "مجرّد مرافِق".

قبل أسابيع، كعادته، كان أبونا مارون منهمكاً بحملة "معاً نعيد البناء" التي أطلقت قبل ثلاثة أعوام والتي "جمعت كل شيء كنا نعمل عليه منذ 50 عاماً، في خطّ اللقاء والوحدة والتضامن والمواطنة". ولعلّ أحد ظرفَيّ الحملة هو "الحالة التي نعاني فيها في العالم العربيّ ككلّ، والعلّة أينما كان هي ذاتها: نحن مفرّقون. نبقى متخلّفين لأننا مفرّقون، ويلعبون بنا لأننا مفرّقون".

ويبقى هذا الكاهن بثيابه المدنيّة أو بجبّته السوداء، الذي يحمل شهادات في الفلسفة واللاهوت والذي يتقن أربع لغات والذي تنقّل بين الدول الأوروبيّة، مستعجلاً دائماً.. كأنه يخشى أن يفوت الوقت قبل تحقيق رسالته التي نذر نفسه لها، كاملة.

اقرأ أيضاً مروان الزغبي: طبيب العائلة ضابط إيقاع هدفه الإنسان

دلالات

المساهمون