تابوت وألوان وكلل

تابوت وألوان وكلل

14 سبتمبر 2014
يحتال الأطفال على كابوس الموت (الأناضول)
+ الخط -
لعبة الشهيد والمقاتل البطل والتابوت، أسماء لألعاب ابتكرها الأطفال السوريّون النازحون من وحي ما يعيشونه من يوميات الحرب في بلادهم، وما بقي منها متشبّثاً بذاكراتهم. هؤلاء الأطفال تمكّنوا من تحويل كابوس الموت إلى ألعاب يلهون بها خلال أوقات فراغهم. فيتنافسون على حفر القبور الترابيّة. والفوز يكون من نصيب الأكثر سرعة.
يضحك أمير، ابن السنوات الخمس، وهو يخبر عن لعبة "التابوت". فيقول "نعيش في تابوت من تراب هنا. وقد حفره لنا والدنا ليحمينا من مناظير القناصين ورادارات الطائرات الحربيّة. فإذا متنا، ندفن في أرضنا وإذا بقينا على قيد الحياة بفضل معجزة إلهيّة، لا نخرج منه إلا في اليوم التالي، رافعين إصبعنا للنطق بالشهادة في حال غدر بنا أحد المجرمين وقتلنا من دون انتباهنا".
ويشير أحمد إلى أنهم يستخدمون هذه التوابيت "في بعض الأحيان للاختباء عند لعب الغميضة". أما لعبة الشهيد، فهي عبارة عن طفل يدّعي أنه قتل في المعارك واستشهد، فيُرفَع على الأكتاف وسط أناشيد النصر.
لكن جميلة البالغة من العمر تسع سنوات، تفضّل لعبة العريس لأنها مرحة ولا حزن فيها. فتقول: "لعبة الشهيد تبكيني لأنها تذكّرني بمراسم دفن أخي في قريتنا في سورية.
أما لعبة العريس فهي تضحكني".
واعتادت حسنا، ابنة السنوات الأربع عشرة، على الرسم والتلوين على وقع أصوات الصواريخ خلال اختبائها في الملاجئ وأقبية الأبنية المتهالكة وحتى على أرصفة الشوارع. وتخبر أنها أحياناً لا تدرك ماذا ترسم، إلا أنها تشعر براحة شديدة عندما تفعل. فتتغلب بذلك على مشاعر الخوف التي تحكم سيطرتها عليها في أثناء المعارك، وحتى بعد انتهائها. فهي تراودها على شكل كوابيس. وتشير إلى أنه "في بعض الأحيان، أخاف أن أغمض عينَيّ كي لا أرى من جديد مشاهد أشلاء الجثث المرميّة في باحة منزلنا في منطقة قارة، من جرّاء القصف المستمر بالبراميل المتفجرة".
حسنا يتيمة الأب، لكنه "لم يقتل بالقذائف وإنما أكرمه الله بموتة طبيعيّة. فقد أصابته جلطة قلبيّة، لم يسلم منها". وتقول الفتاة "دفناه جثة كاملة غير مشوّهة. تمكّنا من تقبيل جبينه البارد ويدَيه الرماديتَين ورجليه الهامدتَين. ألبسناه الأبيض وذهبنا به إلى المقبرة ليستعد لملاقاة خالقه بشكل لائق".
تضيف: "لا يعني ذلك أنني ضد الشهادة. لكنني لا أريد أن أتذكّر أبو عدي حبيب قلبي ممزقاً ومن دون رجلَين كما تفعل صديقتي زينب، التي ما زالت صور جثة والدها تسيطر عليها. فهي تبكي في كل ليلة خوفاً من أن تصيب الشظايا والدتها وإخوتها، فتقتلهم أيضاً". وتسأل "ألا يحق لنا الحصول على عائلة؟ أريد أن ألعب وأن أرسم على لوحات كبيرة مستخدمة ريشة الفنان وألوانه الثمينة. ألا يحقّ لي تحقيق أمنية كهذه؟".
وتلفت حسنا قائلة "لا أعتقد أنني سأنسى هذه الحرب التي لم ترأف بأحبائنا ولم تكتفِ بسلبنا أحلامنا، بل لحقت بنا إلى البلد الذي يأوينا بعدما هربنا من دمارها وخرابها". وتروي أنه "خلال المواجهات العنيفة الأخيرة ما بين الجيش اللبناني والمسلحين (في عرسال)، توجّهنا -بعد سنة من الانقطاع- إلى الملاجئ لنحتمي من الرصاص العشوائي الذي كان يستهدف مخيّم الربيع، حيث استقبلتنا عائلة والدتي. لم أكن أحمل ورقة ولا قلماً لأرسم. كنت خائفة جداً من أن أموت". تضيف: "كنت أنظر في عيون من حولي ولا أرى سوى التوسلات والصلوات، كأنهم يتوقعون وفاتهم في أي لحظة. بكيت كثيراً ولكنني وضعت يدي على فمي حتى لا يسمعني المسلحون في الخارج، تماماً كما كنت أفعل في ملاجئ سورية.
وتوجّهت إلى زاوية في الملجأ وأخذت حجراً صغيراً رحت أرسم فيه على مساحة صغيرة من الأرض. فنجحت في إفراغ خوفي". وتشدّد "لا أريد أن أرسم أبداً. كل ما أريده هو أن تنتهي الحرب". محمد (7 سنوات) وأمجد (12 سنة) من هؤلاء الصغار النازحين. خلال المعارك، كانا يجلسان في زاوية القبو حيث يختبئان من القصف الدائر، ويبدأان برمي الكلل لبعضهما البعض. ويسعى كل واحد منهما إلى تسجيل هدف في مرمى الآخر. ولا تنتهي مباراتهما إلا مع انتهاء المعارك في الخارج وخروجهما من الملجأ. وفي حال عادت المواجهات لتندلع من حولهما، فإنهما يعودان إلى البقعة نفسها ويستمران في تسديد الأهداف".
يقول أمجد: "أحياناً تضيع كللنا، فنبتكر وسائل تسلية جديدة. في إحدى المرات مثلاً، اشتدّ القصف كثيراً وكنا نُستهدف بأسلحة ثقيلة جداً. فكان جدال مع محمد وصديق آخر من سورية حول نوعيّة الأسلحة المستخدمة من رشاشات ودبابات وقذائف. واتفقنا على أن هذه المعركة لن تنتهي من دون قتل العشرات من المسلحين في الحي. وتشارطنا حول تحديد دقيق للجثث المرميّة في الشارع. والذي يتمكّن من ذلك، يكون رابحاً. مرّت ساعات ونحن نتجادل، حتى خرجنا من ملجأنا. لكننا لم نتمكّن من إحصاء الأعداد بسبب قساوة وشراسة ما رأيناه من منازل مدمّرة وأرض مغطاة بدماء المقاتلين".