الفصح في زمن كورونا... تقاليد تتلاشى وسط التباعد الاجتماعي

الفصح في زمن كورونا... تقاليد تتلاشى وسط التباعد الاجتماعي

13 ابريل 2020
هكذا شاركت عائلات في أحد القداديس (جايمس د. مورغان/Getty)
+ الخط -

التباعد الاجتماعي الذي فرضه الوباء العالمي الجديد كان له تأثيره على عيد الفصح الذي احتفل به المسيحيّون الذين يتّبعون التقويم الغربي. فتلاشت بعض تقاليدهم التي تقوم في الأساس على التقارب اجتماعياً.

للمرّة الأولى، بحسب ما تُسجّل ذاكرة العالم الحديث، انقطعت الجماعة عن احتفالات عيد الفصح. فبدا يوم أمس كئيباً، على الرغم من رمزيّة قيامة يسوع المسيح وما تقتضيه من مظاهر بهجة. بخلاف العادة، من دون مؤمنين، أتت احتفالات الفاتيكان كما احتفالات كنائس العالم التي تتّبع التقويم الغربيّ، في حين انحسرت التقاليد الجماعيّة المتوارثة في كلّ البقاع المعنيّة بالمناسبة. ليس السبب اضطهاداً دينيّاً يطاول المسيحيّين أو فئة منهم، إنّما هو الفيروس الجديد الذي يعطّل الحياة بمختلف أشكالها على كوكب الأرض منذ أكثر من مائة يوم.

في روما التي تُوجَّه الأنظار إليها في مثل هذه الأيّام، إذ تكتظّ عادة بالمؤمنين والسيّاح كما لا تكون في أيّ مناسبة أخرى، كان المشهد غير مألوف أمس. البابا لم يطلّ من شرفته في الفاتيكان ليحيّي جماهير اعتادت أن تغصّ بها ساحة القدّيس بطرس. وليست فقط الساحة التي افتقدت ناسها، بل كذلك الأمر بالنسبة إلى كولوسيوم روما حيث اعتاد المشاركون في طقوس الجمعة العظيمة التجمّع عنده. من جهتها، تبدو اليوم الحدائق العامة في المدينة مهجورة، بعدما كان يقضي فيها الناس يومهم في اثنين الفصح أو "باسكويتا".

كما في إيطاليا كذلك الأمر في بقاع أخرى من العالم. الكنائس مقفلة أمام المصلّين، أمر لم يسبق أن حدث، فيما الاحتفالات الدينية في داخل جدران تلك الكنائس محصورة بالكهنة ومعاونيهم. في لبنان، منذ ساعات الصباح، بدأت أجراس الكنائس تُقرَع تباعاً في مناطق متفرّقة. وراحت تصدح أكثر وسط السكون المخيِّم، في المدن كما في البلدات. والسكون سُجّل أمس خصوصاً، على خلفيّة منع تجوّل السيّارات الذي فرضته السلطات اللبنانيّة، في محاولة للمحافظة على التباعد الاجتماعيّ المفروض في زمن كورونا. بالتالي، رأى اللبنانيّون أنّ لا مفرّ من الاحتفال كلّ مع عائلته الصغيرة في بيته، على أمل التحرّر قريباً من الحجر المفروض ليس عليهم فحسب إنّما على أكثر من ثلث البشريّة.

نقل "أونلاين" لقدّاس العيد (حسين بيضون)

طقوس منفردة

في إحدى البلدات الجبليّة الواقعة إلى شمال شرق بيروت، شاهد وليد شهوان قدّاس العيد عبر "فيسبوك" وقد بُثّ مباشرة. يقول لـ"العربي الجديد": "هذه هي المرّة الأولى التي لا أشارك فيها بقدّاس عيد الفصح في كنيسة الضيعة. حتى في أسوأ أيّام الحرب، عندما كانت القذائف تنهمر علينا، لم نفوّت هذه المناسبة. فهذا هو العيد الكبير الذي تتمحور حوله المسيحيّة". يضيف أنّه "إلى الجانب الدينيّ يأتي ذلك الاجتماعيّ، وإن كان الاثنان لا يتناقضان بل يكمّلان بعضهما بعضاً. مثلاً، لا أذكر أنّني في عام لم أشارك في مسابقة تفقيس البيض بعد القدّاس. فهذا من تقاليد ضيعتنا وضيع أخرى". وبحسب التقليد، فإنّ كلّ شخص، صغيراً كان أم كبيراً، يختار بيضة ملوّنة من تلك التي تتوفّر للمؤمنين بعد انتهاء القدّاس، ثمّ يتبارى أهالي الرعيّة في "تفقيس" أو "مفاقسة" البيض. ويؤكد وليد: "صحيح أنّ المنافسة تتكرّر على مائدة غذاء العيد بين أفراد العائلة، لكنّ لهذه العادة نكهة مختلفة عندما يشارك فيها كلّ أبناء الرعيّة".

في داخل البيوت التي أوصدت أبوابها لردع الفيروس الجديد، لم يتخلَّ أحد عن تلوين بيض العيد. غير أنّ العمليّة ظلّت محصورة بأهل البيت الواحد، تماماً كما غداء العيد الذي اقتصر على أفراد العائلات الصغيرة. كأنّما مفهوم العائلة الممتدّة يتراجع. هو بالفعل كذلك في عصرنا هذا، غير أنّ دورها كان لا يزال بارزاً في مناسبات عدّة، والأعياد مثال.



من جهتها، لا تخفي راغدة الأشقر من سكّان العاصمة بيروت خيبتها لأنّ المعمول لم يُعَدّ منزليّاً هذا العام. تقول لـ"العربي الجديد": "في العادة، كانت جدّتي وخالتي تتعاونان مع والدتي على تحضيره في بيتنا، يوم الخميس الذي يسبق الجمعة العظيمة. مذ كنّا أطفالاً صغاراً، كان المشهد نفسه يتكرّر سنويّاً، وكان هذا جزءاً لا يتجزّأ من العيد. أمّا اليوم، فالتباعد الاجتماعيّ مطلوب، لذا لازمت كلّ من خالتي وجدّتي منزلَيهما". تضيف: "التغيير ليس أمراً سهلاً. لا يمكن استيعابه بسهولة وإن كانت الأسباب الموجبة منطقيّة. لكنّنا مضطرّون، بالتالي اشترينا المعمول الجاهز. صحيح أنّ مذاقه لا يوحي بالعيد، غير أنّ هذا النوع من الحلوى من مستلزماته تماماً كما البيض الملوّن".

وفي حين اقتصرت المشاركة في مائدة الفصح بمنزل عائلة راغدة عليها وعلى والدَيها وشقيقها، اكتفى وليد بتناول غداء العيد مع زوجته وابنته الصغيرة، بعدما كان الجميع قد اعتاد على موائد عائليّة ممتدّة. ويؤكّد وليد أنّ "كلّ شيء تبدّل في الآونة الأخيرة، ونخشى أن نضطر إلى اعتياد المستجدّ. من شأن ذلك أن يمعن في عزلة الناس الذين راحت علاقاتهم الاجتماعيّة تتدهور في الأعوام الأخيرة. لم نكن نحتاج إلى كورونا لنفاقم تباعدنا أكثر". ويشير إلى أنّه "بمجرّد أنّنا صرنا نكتفي بالتواصل عن بعد، وبالإنصات إلى الصلوات والترانيم التي تُبَثّ في بعض الأحياء عبر مكبّرات صوت متنقّلة، وبمعايدة الأهل عبر الهاتف أو التطبيقات الإلكترونيّة، فإنّ الأمر لا يبدو مبشّراً بالخير، لا سيّما أنّ فيروس كورونا ما زال يتمدّد مقلّصاً أكثر فأكثر مساحاتنا الخاصة".

بيض العيد الملوّن في شارع شبه خالٍ (Getty)

ضفاف النهر مهجورة

في إقليم فينيتو الإيطاليّ الواقع شماليّ البلاد، الجزء الأكثر تضرّراً من جرّاء فيروس كورونا الجديد، تفتقد ضفاف نهر برنتا أهل المنطقة اليوم. هؤلاء الذين اعتادوا قضاء اثنين الفصح هناك مجبورون على ملازمة بيوتهم وسط إجراءات مشدّدة، بالتالي تخلّفوا هذا العام عن حفلات الشواء التي اعتادوها والتي لطالما تهيّأوا من أجلها. هذا ما تخبره رجاء نعمه التي تعيش مع زوجها وولدَيهما الصغيرَين في واحدة من بلدات فينيتو التي تبعد نحو 30 كيلومتراً عن البندقيّة عاصمة الإقليم. وتشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "إيطاليّي الشمال يختلفون عن إيطاليّي الجنوب في تقاليدهم وتديّنهم، غير أنّهم هذا العام شأنهم شأن جميع أهل البلاد تابعوا كلّ ما يتعلّق بعيد الفصح وما سبقه من خلال البث المباشر، إمّا عبر محطات التلفزة وإمّا عبر موقع فيسبوك. كذلك لم يفوّتوا بمعظمهم، في هذه الظروف، نشاطات البابا فرنسيس. فأنظار الجميع كانت موجّهة إلى الفاتيكان". تضيف رجاء أنّ "هنا، من لا يمارس الطقوس الدينيّة عادة، يحرص على التوجّه إلى الكنيسة والمشاركة في طقوس يومَي الجمعة العظيمة وأحد الفصح. لكنّ الأمور اختلفت هذا العام".

وأمس، اضطرّت العائلات إلى البقاء في منازلها كما في كلّ يوم، مذ أعلنت السلطات الإيطاليّة حالة طوارئ في البلاد على خلفيّة فيروس كورونا الجديد. وهذا ما جعل بحسب رجاء "عمل القصّابين المحليّين يزدهر. ففي أحد الفصح، تجتمع العائلات عادة على موائد غداء في المطاعم. لا أحد يُعدّ الأكل في منزله في هذا اليوم. أمّا هذا العام، في ظلّ الظروف الراهنة، مع إغلاق المطاعم ومنع التجمّعات، اضطرت العائلات إلى تحضير موائدها المختصرة بنفسها". كذلك غابت الزيارات المفترضة بين الأهل والأصدقاء، "فالشرطة شدّدت تدابيرها أكثر ورفعت قيمة الغرامات. هي توقّعت خرقاً لإجراءاتها في مثل هذه المناسبة وكان لا بدّ من ردع ذلك". وتلفت رجاء إلى أنّ أهالي المنطقة، على الرغم من كلّ شيء، حرصوا على شراء "كولومبا دي باسكوا" (يمامة الفصح) وهي "الحلوى التقليديّة الخاصة بالمناسبة والتي لا يمكن إعدادها منزلياً، تماماً كما لا يمكننا إعداد البقلاوة في بيوتنا".



أرنب العيد يلازم منزله

في بودابست، لم يحضر أرنب العيد ليقدّم الهدايا إلى الأطفال الذين ينتظرونه كما في كلّ عام. وتشير ندى الأحمر التي تسكن في العاصمة المجريّة مع زوجها وولَديها الصغيرَين، إلى أنّ "الروضات بعثت برسالة مصوّرة إلى التلاميذ يظهر فيها أرنب مع كمّامة طبيّة مع عبارة: أنا باقٍ في المنزل". هكذا، يسهل إقناع الصغار بغيابه القسري. وتخبر ندى "العربي الجديد" أنّ الفيروس استهدف العادات بمجملها، "فلم يتمكّن المجريّون من زيارة منزل الجدّ والاجتماع فيه، يوم أمس الأحد، بمناسبة العيد. كذلك لم يقصدوا الكنائس كما هي حال معظم شعوب العالم". أمّا التقليد الأبرز الذي "تضرّر"، فهو "رشّ ماء الورد على الشابات. فيوم اثنين الفصح، وبحسب عادة قديمة لا علاقة لها بالشقّ الدينيّ، كان الشبّان يرشّون ماء الورد على الشابات اللواتي يختارونهنّ، بعد أن يتلوا أشعاراً لهنّ ويطلبون إذنهنّ. ومفاد ما يتلونه هو: يا زهرة يا جميلة هل تسمحين لي بأن أسقيك لتتفتّحي بعد الشتاء الحالك؟ فإذا أجابت الشابة بنعم أوافق، حينها يرشّها الشاب المعنيّ". تضيف ندى أنّ "هذا التقليد يتكرّر في خلال فعاليّات باللباس التقليديّ، لا سيّما أنّ هذه الفترة من العام تُعَدّ موسماً سياحيّاً مهمّاً جداً في البلاد. لكنّ الحال ليست كذلك اليوم".

وفي السياق نفسه، تشير ندى إلى أنّ "هذا التقليد يتّبعه كذلك الفتيان الصغار (حتى العاشرة)، فيقصدون منازل فتيات في مثل سنّهم مع آبائهم، ويرشّون كلّ واحدة بماء الورد، بعد تلاوة الشعر المناسب. في المقابل، تقدّم الفتاة بيض الشكولاتة أو لعبة صغيرة لمن رشّها. لكن بما أنّ هذا الأمر ليس ممكناً في هذا العام بسبب التباعد الاجتماعي المفروض، استُحدث تطبيق إلكترونيّ للاتصال بالفتاة التي يرغب الفتى في رشّها بماء الورد (من الجيران والأقارب)".