عقدٌ من الغاردينيا

عقدٌ من الغاردينيا

30 مايو 2015
أحبّ فاكهة الصيف (Getty)
+ الخط -

كانَ يجلِسُ في أسفل سُلّمٍ. لا يزيد عمره عن 12 عاماً. بدا وكأنه ينتحب كأمٍّ فقدت طفلها للتوّ. كتّف يدَيه وأسندهما إلى بطنه. حكى قصّته بسرعة. لجأ وعائلته إلى بيروت هرباً من يوميات الحرب في بلاده. استأجروا بيتاً كئيباً. عشرون دولاراً فقط تنقذه من تشرّد يُضاف إلى تشرّده، قبل أن يرميهم المالك في الشارع لأنه يريد بدل إيجار بيته كاملاً. الرقم غير مقنعٍ ربما. لكن الأكيد أن الطفل ليس نفسه قبل عام.

مرّت سيارات كثيرة بمحاذاته. يكرّر مشهد النحيب أمام الوجوه التي تطلّ عليه من خلف الزجاج. ما إن يروه، حتى يسارع بعضهم إلى إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، ينسون أنه مجرد طفل، فيتحوّل في نظرهم إلى كائن خطير.

اسمُ هذا الصبي ليس معروفاً. ربما يكون محمد أو أحمد أو لؤي أو أيّ اسم آخر. إلى جانبه صبية آخرون وفتيات. قد تتشابه أسماؤهم وقصصهم وأحلامهم وطفولتهم.

ماذا أكتب اليوم؟ أجدُ نفسي أبحثُ بين هؤلاء عن قصة أكثر إيلاماً. هل يكون هو؟ لا ربما هي. عيناها تخفيان الكثير، لكنها لا تريد أن تقول شيئاً. صارت تحذرُ الكلام الذي جعل منها لاجئة إلى بلد ثم إلى رصيف.

لا شيء أكتبه. ربما أبحثُ عن الصبي مجدداً، وأعرفُ إن كان صاحب الشقة قد طردهم أم لا. أو أتبعه وأرصد "المافيا" التي بات جزءاً منها. هل سئم الناس قصصهم؟ ربما فعلوا، وقد يكون سأماً نابعاً من عجز. فلنفترض حسن النية.

ربما هناكَ أمور أخرى. الكرز والخوخ والمشمش تستقبل الصيف في علبها البلاستيكية في المحال، الصيف فرح. سأضيف إليه بيروت والبحر. أرى المدينة كائناً لم يتعالج من أمراضه النفسية بعد، لكنها طيبة ولا أحقد على الطيّبين. لا يثقل الصيف على القلوب، يذكرنا دائماً أن الشمس لن تغيب باكراً، وإن كانت حارقة أحياناً، لكنها لن تغيب.

ليسَ هناكَ ما يستحقّ الكتابة.. الحبّ، الأمومة، الأطفال، اللجوء والحروب. منذ زمن، نمضغ اليوميات نفسها، ونرفض رميها في سلة المهملات. تُعيد بيروت إنتاج الأصناف ذاتها، لكن نحبها، أو نحب أنفسنا فيها. نحب أن يلقي علينا عشرة أشخاص التحية في شارع واحد. نحب أن نُصغي إلى غزلٍ لطيف نتمنى ألا ينتهي وإن قلنا عكس ذلك أو تذمّرنا.

هل أحكي أكثر عن الصيف؟ لا أملك غير حبّي له. أشعر بخفّته وأحب فاكهته. عرائسُ المدينة، أيضاً، يتحضّرن لارتداء أثوابهن البيض. النتائج لا تهمّ، تكفي المظاهر أحياناً لملء قلوبنا بالفرح، وإن كان سينتهي بمجرّد أن ترمي العروس باقتها.

قد تحسد الفتيات من تلتقطها، ظناً منهن أن عريسها سيسبق عرسانهن. ربما تسعد قبلهن، لكن الورود تذبل سريعاً. حسناً، سأبحثُ عن الصبي، ربما التقى بفتاة أحلامه، ووضع عقداً من الغاردينيا حول عنقها.

إقرأ أيضاً: أطفال الثلج

المساهمون