العمّ عمّار.. ينقش تاريخ تونس على النحاس

العمّ عمّار.. ينقش تاريخ تونس على النحاس

24 مايو 2015
(العربي الجديد)
+ الخط -

"أمّ السيسي.. هي ليست والدة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي"، يبتسم عمّار الزغلامي ويتابع: "هي قصّة من قصص التراث الشعبي في تونس. هي امرأة خرافية تناقلت حكاياتها أجيالٌ بعد أجيال. وأنا اخترت تخليدها في لوحة من النحاس برونق تونسي تقليدي".
العمّ عمّار هو واحد من أكبر نقاشي النحاس في المدينة العتيقة في العاصمة تونس، وهو يعمد إلى تخليد قصص خرافية أخرى وحكايات أصيلة وشخصيات محبوبة لدى التونسيين كالمسحراتي الذي يسمى محلياً "أبو طبيلة" نسبة للطبلة التي يستخدمها، والراقصات الجواري، والمرأة الريفية وبائع السمك المتجوّل.

ما إن تطأ قدماك المدينة العتيقة، حتى تسمع طقطقات مسماره ومطرقته الصغيرة على أطباقه النحاسية التي يغطّي بريقها جدران محلّه الصغير. وتحوي بعض تلك الأواني والأطباق زخرفات وخطوطاً بربرية وأخرى أمازيغية وعربية. الحروف الأمازيغية وإن تحوّلت رموزاً مألوفة الشكل، تعدّ غريبة مع اندثار اللغة الأمازيغية، علماً أنّ بعض القبائل في تونس ما زالت تتقنها. وعلى الرغم من ذلك، يتمسّك العمّ عمّار بنقش بعضها، فهي "جزء من تاريخ تونس".

والعمّ عمّار في الثالثة والسبعين من عمره، تعلّم حرفة النقش على النحاس مذ كان طفلاً في العاشرة، على يد أحد النحاسين القدامى. عشق النقش والرسم، وانفرد بابتداع بعض الأعمال الفنية، إلى أن فتح دكانه الخاص عندما كان في الثامنة عشرة.
بمسماره ينقش تاريخ المدينة، فيرسم أبوابها وزخرفتها وشوارعها إلى جانب فوانيس المدينة القديمة. كذلك ينقش الواحات التونسية واللباس التونسي الأصلي وكل ما هو تقليدي في المدينة.

وتعود حرفة النقش على النحاس وصناعة الأواني النحاسية في تونس إلى عهد الدولة الحفصية في ‏القرن الثالث عشر الميلادي، خصوصاً في المدن الكبرى من قبيل تونس وصفاقس والقيروان. ويعدّ سوق النحاسين في السوق العتيق لمدينة تونس من أكبر أسواق المدينة، وكان يعرف بـ "سوق الصفارين" نسبة إلى ألوان الأواني النحاسية. والمنتوجات النحاسية كانت تعدّ في الماضي من أساسيات البيوت التونسية.
النقش على النحاس هو واحد من أبرز الفنون التي ما زالت تحتفظ ببريقها الخاص، على الرغم من طغيان العصرية. وما زالت منتجات النحاس المزخرفة بالنقوش تجد من يرغب بها من أهل البلد وتجذب بشكل خاص السياح الأجانب. تجدر الإشارة إلى أن عائلات تونسية كثيرة ما زالت تحتفظ بأوان نحاسية يفوق عمرها مائة عام، وبعضها يخرج تلك الأواني من حين إلى آخر لتلميعها وتغطيتها من جديد بمادة النيكل حتى يعود إليها بريقها.

والعمّ عمّار بآلاته البسيطة وبالطرق اليدويّة التي امتهنها منذ عقود، يطوّع النحاس مستخدماً في مرّة الدقّ والليّ وفي أخرى التسوية والتقويم حتى يحصل على شكل الإناء المطلوب قبل أن ينتقل إلى نقشه بالمسمار والمطرقة. وفي مرحلة أخيرة يغطي القطع النهائية بطبقة رقيقة من النيكل لحمايتها من الأكسدة.
ومن دون أن يرفع ناظرَيه عن مسماره، يحادث من يقصده. وغالباً ما يخبر كيف كان سوق النحاس في تونس "أشبه بخلية نحل. يُسمَع نقر المسامير من كلّ دكان. ضوضاء كبيرة تحدثها أصوات المسامير. كان عدد الحرفيين كبيراً في تلك الأيام، بالمئات.. أما اليوم فهم بالعشرات. كثيرون هم الذين تخلوا عن تلك الحرفة بسبب غلاء النحاس وارتفاع تكلفة التصنيع وقلة اليد العاملة التي تتقن هذه المهنة".
والسوق في هذه الأيام، يشهد فترة انتعاش نسبية موسمياً، خصوصاً قبل حلول شهر رمضان وفي خلال مواسم الأفراح في الصيف. لكن ما عدا ذلك، يقتصر السوق الممتد والضيق بقيّة أيام السنة على المارة.

عمّار الزغلامي يتمنى لو يعلّم الحرفة إلى شبان عاطلين من العمل ليجدوا فيها مورد رزق، "لكن يبدو أن الشباب اليوم يرغبون بالأعمال السهلة والمربحة في الوقت نفسه. هم لا يعلمون بأن السوق اليوم مفتوح وبأنهم قادرون على ترويج منتوجاتهم بالخارج". بالنسبة إليه، هذه الحرفة ترتبط بتاريخ المنطقة وتراثها وأصالتها، وقد توارثتها الأجيال، "لكنّها باتت اليوم تصارع من أجل البقاء".

أطباق نحاسية كثيرة تزيّن جدران محل العمّ عمّار وواجهته، وكذلك أوانٍ بسيطة من أكواب شاي وقهوة وغيرها. وكلّها تحمل زخرفاته وقد عمد إلى تلوين بعضها.
ويفخر العمّ عمّار ببعض وزارات وإدارات حكومية تزيّن مكاتبها بمنتوجات تقليدية "قد تساهم في تعريف الوفود الأجنبية الرسمية بما تزخر به بلادنا من منتوجات يدوية تعدّ أعمالاً فنية فريدة من نوعها. هي أعمال تعرّف بالمخزون الثقافي التونسي وتشجّع على السياحة".

اقرأ أيضاً: جلول الغربي.. حكاية 55 عاماً مع الشاشيّة التونسية

المساهمون