فخار نابل... رزق التونسيين وتراثهم

فخار نابل... رزق التونسيين وتراثهم

تونس

مريم الناصري

avata
مريم الناصري
28 يونيو 2019
+ الخط -
إلى شارع بعيد عن باقي أرجاء المدينة، يضمّ عشرات من دكاكين صانعي الفخّار، يتوجّه محمد أمين يومياً عند الساعة السادسة صباحاً، لينطلق في عمله على غرار حرفيّي ذلك الشارع. يستهلّ عمله بعرك كميات من الطين بالماء بكلتا يدَيه العاريتَين.

ليست العملية سهلة، فالأمر يتطلّب من أمين ساعات للحصول على طين رطب طيّع يسهل استخدامه في صنع أوانيه الفخارية. ينزوي أمين في واحد من أركان دكانه، في خلال عملية تطويع الطين وتشكيل ما يرغب في صنعه على قاعدة مدوّرة من الصفيح يحرّكها بقدمَيه من الأسفل. ويسرّع حركتها فيما يلفّ كتلة الطين ويجوّفها بأصابعه، ثمّ يدخل يده في تلك الفتحة ويرفعها بخفّة وبسرعة وبطريقة دائرية ليشكّل هيكل الإناء. ويبلّل في كلّ مرّة يدَيه بالماء ويعمد إلى تمليسها جيداً حتى تصير ناعمة، علماً أن صنع الإناء الواحد يستغرق نحو خمس دقائق.

يتوقف أمين "الملاس" (بحسب التسمية الدارجة في تونس) عن تحريك قاعدة الصفيح بقدمَيه، ثمّ يضع مولودته بعناية بعيداً عن أيّ خطر قد يحدق بها. بعد ذلك، يحملها عامل آخر إلى ركن آخر في الدكان، بعيداً عن أشعّة الشمس، حتى تجفّ على مدى يومَين أو ثلاثة أيام قبل وضعها في النار. فبعد تشكيل عدد من الآنية ذات الأشكال والأحجام المختلفة، يجمعها ذلك العامل على أرضيّة مسطحة حتى تتماسك وتجفّ، قبل أن يضعها لاحقاً فوق بعضها البعض على شكل أعمدة في داخل فرن محفور تحت الأرض تشعله قطع من الحطب لتستوي الأواني ببطء. يُذكر أنّ وقت استوائها يأتي بحسب حجم كل واحد منها. وفي مرحلة أخيرة، يعمد أحد العمّال إلى تلوينها بواسطة ريشة وبعض الأصباغ التي يخلطها بالماء.

تلك هي مراحل صنع آنية الفخّار التي تتشابه تفاصيلها لدى حرفيي ذلك الشارع. هم يستخدمون أدواتهم البسيطة ويحافظون على طرقهم التقليدية، الأمر الذي جعل نابل تصنَّف كواحدة من أبرز المدن التونسية في إنتاج الفخّار بمختلف أنواعه منذ القرن التاسع عشر. فيها شيّدت مصانع وورش كبيرة وفّرت مئات فرص العمل في المنطقة.

ويستعمل الفخّار لأغراض متعددة، فهو يُعتمَد في أواني الطبخ، أو الجرار لتخزين الزيت، أو القلال لجلب الماء من الآبار والعيون، أو يكون على شكل تحف ومزهريات وغيرها. كذلك يستخدم في تزيين جدران البيوت وواجهاتها ويطلق عليه تسمية "غليز"، بالإضافة إلى بناء نافورة المياه التي تزيّن الحدائق المنزلية والعمومية كذلك.



يقول أمين إنّ "مناطق تونسية عدّة تشتهر بصنع الفخّار على غرار جربة في الجنوب ومكنين على الساحل، لكنّ فخار نابل يُعَدّ المنتج الأوّل في البلاد"، مضيفاً أنّ "الحرفيين في نابل توارثوا بمعظمهم تلك الحرفة عن الأجداد وحافظ كثيرون منهم على محلاتهم منذ أكثر من مائة عام. كذلك صار الفخّار النابلي اليوم مورد زرق تونسيين كثيرين من مختلف الجهات تعلّموا الحرفة في نابل".

تجدر الإشارة إلى أنّ جودة فخّار نابل جعلته المنتج الأوّل الذي يسوّق في تونس وفي بعض الدول المجاورة من قبيل ليبيا (سابقاً) والجزائر والمغرب. وما زال يحفظ للتونسيين آلاف فرص العمل، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى الحرفيين الذين يصنعونه أم التجّار الصغار من أصحاب محلات الفخّار في المدينة، أم التجّار الكبار الذين يسوّقونه في مناطق مختلفة في البلاد.



من جهته، لا يكاد الحرفي مراد جبيل ينتهي من تحويل قوالب الطين المرصوفة فوق طاولته في شكل دائري إلى أوانٍ فخارية، حتى يجلب له عامل آخر قوالب أخرى كانت مغلّفة في أكياس بلاستيكية لتحافظ على الرطوبة فيها فتكون ليّنة في خلال صنعها.



في هذا الدكّان، تختلف طريقة الصنع قليلاً، إذ إنّ صاحبه يقتني الطين من مصانع الآجرّ على شكل قوالب أسطوانية جاهزة للتشكيل من دون بذل جهد في عركها وتليينها بالماء. كذلك، فإنّ الطريقة التقليدية تغيب نوعاً ما، لا سيّما أنّ الحرفيّين في هذا الدكّان يستخدمون القوالب لتشكيل الآنية.

هنا، تُستخدم آلة كهربائية صغيرة لتحريك الأسطوانة دائرياً، وقد وُضع قالب فوقها. فيبسط جبيل قطعة مسطحة من الطين على القالب، ثم يضعه فوق الأسطوانة التي تدور بسرعة، فيما هو يمرّر خرقة مبلّلة لتنعيم الإناء حتى يصير أملس. ثمّ يضع ذلك الإناء في منطقة مغلقة بعيداً عن الشمس أو الهواء حتى لا يتشقق.

ويخبر جبيل أنّه يعمل في هذه الحرفة "منذ أكثر من عشرة أعوام، وهي مورد رزق آلاف من أهالي منطقة نابل". لكنّه لا يخفي حقيقة أنّ "الشباب اليوم لا يرغبون في احترافها أو حتّى تعلّمها نظراً إلى قلّة مردودها، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة المواد الأولية في خلال الأعوام الأخيرة، فينا يُباع الإناء الواحد بأسعار زهيدة جداً".



دلالات

ذات صلة

الصورة
جابر حققت العديد من النجاحات في مسيرتها (العربي الجديد/Getty)

رياضة

أكدت التونسية، أنس جابر نجمة التنس العربي والعالمي، أن تراجع نتائجها في المباريات الأخيرة، يعود إلى إصابة قديمة منعتها من تقديم أفضل مستوى لها.

الصورة
يدفع المهاجرون مبالغ أقل للصعود على متن القوارب الحديدية

تحقيقات

بحثاً عن الأرخص، تصنع شبكات تهريب البشر الناشطة في تونس قوارب حديدية من أجل نقل المهاجرين غير الشرعيين عبرها إلى أوروبا بكلفة أقل، إذ تنفق مبالغ بسيطة على بنائه
الصورة
أكد المشاركون أن الثورة شهدت انتكاسة بعد انقلاب قيس سعيد (العربي الجديد)

سياسة

أكدت جبهة الخلاص الوطني، اليوم الأحد، خلال مسيرة حاشدة وسط العاصمة تونس، أن البلاد في مفترق طريق ولا بد من قرارات مصيرية حتى لا تذهب نحو الانهيار.

الصورة
محامو تونس في يوم غضب/سياسة/العربي الجديد

سياسة

أعلن محامو تونس اليوم الخميس دعمهم الكامل لخيار المقاومة بهدف استرداد الحق الفلسطيني، خلال يوم غضب نظموه في محكمة تونس، أبدى المحامون استياءهم من مواقف بعض الحكام العرب الذين يساندون إسرائيل ويتبنون سياسة التطبيع معها. وأشاروا إلى أن التاريخ سيدينهم.