السان سيمونيون وحقوق العمال في مشروع القناطر الخيرية (3)

السان سيمونيون وحقوق العمال في مشروع القناطر الخيرية (3)

10 مايو 2018
+ الخط -
تناولنا في التدوينة السابقة الحديث عن جماعة السان سيمونيين الفرنسية التي تألقت في الربع الثاني من القرن التاسع عشر وكان لها توجه اقتصادي واجتماعي وديني حاولت أن تنشره في فرنسا، فتعرضت للقمع، وتزامن ذلك مع صعود نجم محمد علي باشا في مصر ومحاولاته تحديث مصر فوجدت الجماعة ضالتها في تحقيق أهدافها كي تكون نموذجاً تُصدره للعالم من خلال نجاحها في مصر ومن خلال المشاريع الطموحة التي كانت تتطلع لتنفيذها، وكان على رأسها مشروع حفر قناة السويس، ورغم المساعي والدراسات التي جعلتها على بُعد خطوة من تنفيذه، إلا أن خطأ بسيطا في الحسابات أطاح بخطتها، فنُسب الفضل بعدها بسنوات إلى غيرها!

ولكن هذا المشروع لم يكن الوحيد الذي شاركت في بداياته ولم تجنِ ثماره. فمشروع إقامة سد على النيل كان مثالا آخر لنفس ما حدث تقريباً ولكن بملابسات أخرى.

لقد كانت الحاجة إلى الخبرات الأوروبية هي فقط ما دفع محمد علي للاستعانة بالأوروبيين، حيث يقول أحد الفرنسيين (سيريزي) إن "الباشا لا يخشى من شيء قدر الأوروبيين، ولا يريد أن يستخدم كموظفين سوى أهل البلد". والحقيقة أنه أستفاد كثيراً من طبيعة المنافسة الفرنسية - الإنكليزية التي أعطت له إمكانيات كافية للاختيار يحفظ بها استقلاله من خلال استخدام كل قوة في تحييد الأخرى: مهندس إنكليزي أم فرنسي لمناجم سورية، مشروع فرنسي أم إنكليزي للسكك الحديدية،.. إلخ.

وهكذا كان من نصيب الفرنسيين المشاركة في مشروع هيدروليكي كبير وهو مشروع القناطر الخيرية، والذي لم يوجد ما يماثله وقتها لأنه لا يوجد أي نهر أوروبي بمثل أبعاد النيل وخصائصه.

اقرأ أيضا: "السان سيمونيون" في مصر (1)


التكليف بمشروع القناطر

عندما قام محمد علي بتكليف باشمهندس الوجه القبلي لينان بتنفيذ مشروعه الطموح بإنشاء قناطر على النيل، كان هذا إيذاناً بانطلاق أكبر تحد تميز به حكم هذا الوالي في المجال السلمي. ففضلاً عن صعوبة المشروع غير المسبوق من الناحية التقنية حتى في أوروبا، غامر محمد علي باللجوء إلى الأجانب الأكفاء بالطبع، لكن الذين طردتهم بلادهم بسبب الجرأة الفاضحة لأفكارهم عن المستقبل.


يشير لينان إلى أن محمد علي كان في مخيلته إنشاء "سد كبير" بهدف "نقل المياه إلى فرع دمياط" وذلك بسبب ضعف حصته من المياه والتي يروي من خلالها شرق الدلتا ووسطها، ومن جانب آخر كان السد سيجعل فرع دمياط صالحاً للملاحة طوال العام.

وكان من المقرر شق ثلاثة رياحات كبرى، وكان أكثرها أهمية هو الرياح في الوسط الذي يغذي جميع الترع القديمة المتفرعة من النيل مباشرة. أما الرياحان الآخران فقد كان مقرراً شقهما، الأول على الجانب الغربي من فرع دمياط، والثاني على الجانب الشرقي لفرع رشيد.


المشروع يفجر مشكلة اجتماعية

وفي ما وراء الإنجاز التقني، فإن ما كان يسترعي اهتمام السان سيمونيين هي المشكلة الاجتماعية. لقد كان الباشا لا يرى أي غضاضة في أن يجمع قسراً كل عام حوالي 25 ألف نفر للقيام بأعمال الحفر، إلا أن تجربة حفر ترعة المحمودية المريرة كانت حاضرة دائماً في الأذهان، لأنه في أثنائها لقي ما بين 15 إلى 20 ألف عامل مصرعهم من بين إجمالي عمال المشروع وهو 30 ألف عامل، طبقاً لما ورد إلى سمع أنفانتان، أو أكثر من 20 ألفا من إجمالي 200 ألف طبقاً للتقديرات التي نقلتها سوزان فوالكان (إحدى النساء السان سيمونيات).

إن تضارب أعداد القتلى فضلاً عن الأعداد الهائلة التي تم تسخيرها بلا رحمة في هذا المشروع تخطت في الواقع حدود الذهن الغربي في هذا المضمار.

لقد بدأ أنفانتان بمحاولة إقناع مراسليه في فرنسا بأن وعد محمد علي بجمع أربعين ألف عامل لهذا المشروع ليس ضرباً من الخيال. ولكنه أكد أن الشعار السان سيموني هو "التحسين البدني والأخلاقي والعقلي للطبقة الأكثر فقراً وكثافة"، ولهذا سيبدأ في مصر بدعم من أدهم بك والذي "يحمل حماسا إنسانيا ودينيا لهذه المسألة" باتخاذ تدابير أفضل تتعلق بصحة العمال، فيقول "فعلى غير العادة، تقرر إنشاء أكواخ لمبيت العمال، وإعطاؤهم حُصراً. كما أننا ندعم وسندعم دائماً، هو ونحن، التغذية الجيدة للعمال، كما سيتم تكليف أربعة أو خمسة أطباء لمرافقة العمال".

يساعد أرشيف مكتبة الأرسنال في فرنسا على إدراك التوحد الحميم بين السان سيمونيين ولينان في أيديولوجيتهم المشتركة رغم كونه لا ينتمي إلى السان سيمونية.

ولكننا نقرأ في مذكرة مطولة كتبها أنفانتان عام 1834 نقداً لاذعاً لأسلوب العمل التقليدي الذي كان سائدا في مصر والذي كان في منزلة وسطى بين العبودية والإقطاع على الطريقة الأوروبية. ويبدأ بتقرير واقع دون تجميل قائلاً: "الاثنا عشر ألفاً الأوائل من الأنفار الذين تم طلبهم وصلوا تباعاً على مدار شهرين" وكان أكثرهم من "المسنين والأطفال"، ولكي يتم نقل تراب الحفر لم يكن لديهم سوى القُفف. وإن كانوا قد حصلوا في ما بعد على عدد قليل من العربات النقالة، إلا أنهم لم يكونوا معتادين على استخدامها بل لم يمنحوا الوقت للتأقلم عليها، فقد كان يتم إحلالهم بغيرهم كل شهر. فضلاً عن ذلك نظراً لنقص الخبز والحمرة اللازمة لإقامة الأفران ونقص الأخشاب للتدفئة، تضاعف عدد الفارين وكانت تنشب في كثير من الأحيان معارك حقيقية بين العمال الفارين وحراسهم.

ورغم جميع هذه الصعوبات، فقد لاحظ بعض السان سيمونيين أن من يتعاونون معهم من المصريين يمتلكون مميزات خاصة من الناحية التقنية، حتى أن أنفانتان نفسه ذهب للقول إنه "توجد خامة هندسية كثيرة لدى العرب الجهلاء أكثر من العلماء الفرنسيين".

اقرأ أيضا: حلم السان سيمونيين بحفر قناة السويس (2)


توقف العمل بالمشروع

لم يكن محمد علي في مقدوره قط تصور طول مدة عمل المشروع وتعقيداته الفنية، ونظراً لأنه اعتاد على قياس صعوبة أي مشروع بعدد الفلاحين المطلوب استدعاؤهم، لم يُقدر على سبيل المثال أهمية جودة أخشاب الإنشاءات، فقد أمر فجأة بإرسال لينان بحثاً عن هذه الأخشاب في الشام. وفي موقف آخر، أرسله ليختار أحد أهرامات الجيزة لهدمه من أجل توفير الحجارة اللازمة للمشروع!

بيد أنه في عام 1835، ضرب وباء الطاعون صفوف العمال والسان سيمونيين، ونتج عنه موت السان سيموني (هوارت) بالطاعون، وفرار أنفانتان إلى الصعيد هرباً من الوباء، إلا أن هذا لم يمنع المضي قدماً في التخطيط لإنشاء السد بل والتخطيط لإنشاء خط سكة حديد لنقل الحجارة من محاجر طرة إلى القناطر.

إلا أنه وبسبب النقص الشديد في العمال والأموال بسبب الحروب وانتشار الطاعون، كل ذلك دفع الباشا إلى اتخاذ تدابير تقشفية قاسية في صرف الرواتب. كذلك كثرت الانتقادات الموجهة للسان سيمونيين ولحاميهم، وكان بعضها نتيجة لوشايات. وعلى جانب آخر، وصلت إلى أسماع محمد علي باشا أنباء عن أن هؤلاء الأجانب يدعون بأنهم "محركو جميع الأعمال في مصر" وبأن الصحف في أوروبا تبرز دورهم على حساب دوره.

أما السبب الرئيسي فقد كان بناء على نصيحة من مهندس بولندي، بعدها أصدر محمد علي مرسوماً في 1838 ينص على طلب إعادة دراسة الجدوى الخاصة بالمشروع، حيث قيل إن شق ترع جديدة يكفي للغاية، بينما طلب لينان الذي كان في ذلك الوقت مسؤولاً عن إدارة الأشغال العامة تشكيل لجنة لعمل تقرير كانت غايته تأييد إقامة المشروع ضمت شرقيين (عرب وأتراك وأرمن) وأوروبيين، خلصت إلى أن ثلاثة أعوام تكفي لتغطية تكاليف المشروع نتيجة لزيادة المكاسب الزراعية التي ستتحقق من استصلاح حوالي مليون ونصف مليون فدان من الأراضي الزراعية. ومع ذلك كان رد الباشا أنه لم يعد يرغب في إنشاء القناطر!

فهل كان هذا نتيجة تأثير دسائس غرماء لينان؟ أم أنها نزوة من جانب حاكم مطلق؟

جاء قرار محمد علي بعزل لينان من منصبه كرد فعل لرفض فرنسا دعم طلبه في الاستقلال. وفي مسار آخر يعبر أنفانتان، الذي أصابه الإحباط من سياسة الباشا الداخلية، إلى فكرة نابليونية تماماً وهي أن مصر لن تستطيع الحصول على الحرية "إلا بالطرد الكامل للعنصر التركي". لقد كان في مخيلته وضع مصر تحت وصاية أوروبية مؤقتة "بعد نزهة عسكرية" بهدف القضاء على الهيمنة التركية، وذلك لتحقيق النمو المستقل لمصر! وهو ما يتناقض مع الأفكار المثالية للسان سيمونيين.

قناطر موجل بك

في عام 1842، وبعد توقف الحروب عاودت محمد علي فكرة إنشاء القناطر. ولكن هذه المرة، عهد بالمسؤولية للمهندس الفرنسي موجل Mougel الذي أثبت جدارته في إعداد حوض جاف لترميم وإصلاح السفن بالإسكندرية. وقد أجريت تعديلات كثيرة في التصميمات والتي أرسلت لمجلس الطرق والكباري بفرنسا. وفي عام 1847 وضع محمد علي حجر أساس القناطر بحضور قناصل الدول.

وقد اختار موجل لإقامة المشروع موقعاً أعلى من الموقع الأول الذي اختاره لينان، حيث بنى القناطر في مجرى النهر وليس على أرض يابسة كما كان الحال في التصميم الأول. لقد عمل مع موجل كل من المهندس محمد مظهر (وكان مكلفاً بفرع رشيد) والمهندس مصطفى بهجت (وكان مكلفاً بفرع دمياط).

وفي 1853، نُحي موجل عن إدارة المشروع الذي لم يكن قد انتهى بعد من إتمامه، وكُلف مظهر بك بالإشراف عليه، وهو أحد طلاب البعثة التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا عام 1826 وكان من كبار المهندسين.

وقد كلف لينان بالإشراف على شق الترع المتفرعة من القناطر وكان دائم الانشغال بتوفير إعانة مادية للعمال ولا سيما الغذاء الكافي وتنظيم عمليات إسعاف لتجنب تجدد المآسي التي دفع ثمنها الفلاحون في أثناء شق ترعة المحمودية.

وهكذا فإن السان سيمونيين لم يكتب لهم أن ينسب المشروع لرجالهم وهو أمر شديد الشبه بحال مشروع قناة السويس.
4B90F8CE-5FAA-46C0-A5E9-C3B2EB96C8F1
أمل شريف

مدونة مصرية... حاصلة على بكالوريوس تجارة - جامعة عين شمس.