حلم السان سيمونيين بحفر قناة السويس (2)

حلم السان سيمونيين بحفر قناة السويس (2)

02 مايو 2018
+ الخط -

تناولنا في التدوينة السابقة الحديث عن السان سيمونيين كجماعة فرنسية لها أفكار اقتصادية واجتماعية ودينية ظهرت وازدهرت في الرُبع الثاني من القرن التاسع عشر، وكيف تم التضييق على أفرادها في فرنسا مما دفع كثيراً منهم إلى الرحيل إلى مصر لتحقيق جزء من مشروعاتهم، كي تصبح مصر نموذجاً يجسدون من خلاله نجاحهم.

لقد بدأت أول هجرة سان سيمونية إلى مصر في عام 1832 في أوج قوة محمد علي حيث رأوا فيه "الباشا الصناعي" الذي بامتلاكه أدوات الإنتاج عبر نظام الاحتكار خير مُعين يمكنهم من تحقيق مشروعاتهم. لقد أعقب الهجرة السان سيمونية الأولى هجرة ثانية كان على رأس أفرادها "الأب" وزعيم الجماعة، أنفانتان بعد خروجه من السجن.

وصول أنفانتان إلى مصر وحلم قناة السويس
يذكر فيليب رينيه صاحب كتاب (السان سيمونيون في مصر) أن أهم مشروع بالنسبة للجماعة كان مشروع ربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر عبر طريق مباشر، فوصول أنفانتان إلى مصر شجع المهندسين والرسامين على ضرورة استكشاف منطقة السويس لتكملة الدراسات التي تمت أثناء الحملة الفرنسية على مصر قبل أكثر من ثلاثين عاماً وبيان أفضل صيغة للربط بين البحرين حتى يتم وصل الهند بأوروبا. لقد كان ذلك المشروع هو الحلم الأول للسان سيمونيين في مصر.


لقد كانت مقابلة محمد علي باشا ليست بالأمر السهل. فلم يحظ أحد منهم بلقائه إلا بعد مرور شهور، فالكلام الذي سبق وتردد حول أفكار الجماعة وظروف طردهم من إسطنبول في هجرتهم الأولى إلى الشرق بحثاً عن "المرأة - المسيح"، فضلاً عما واجهوه من ملاحقة في فرنسا ما جعل محمد علي يضع شروطه عند أول لقاء بهم أن: "لا كلمة واحدة عن السان سيمونية ولا حتى بطريقة غير مباشرة"، فالموضوع كان بالنسبة له فقط "السكك الحديدية ومناجم سورية وأمور أخرى". وكأن الباشا قد قطع الطريق معبراً منذ البداية عن اختياره للسكك الحديدية من السويس إلى القاهرة ثم إلى الإسكندرية بديلاً عن القناة. وهي الفكرة التي ربما راجت أكثر للإنكليز، الذين كانوا يعتقدون بأن حفر قناة تربط البحرين سوف تجعل محمد علي يجني منها ثروات جديدة ويطور أسطوله في البحر الأحمر والذي عن طريقه وبتحالف باشاوات الموانئ -الذين يجمعهم معه دين واحد- سوف يصبح قادراً على الاستيلاء على الطريق إلى الهند، بل وعلى تحريض الشعوب المستعمرة على الانتفاض.

قناة السويس
لقد كانت فكرة ربط البحرين المتوسط والأحمر فكرة قديمة تمتد لأعماق التاريخ وهذا ما كان يعلمه جيداً المهندس الفرنسي جي. إم. لوبير J.M. Le Pere المُكلف من قبل نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر بدراسة إماكنيته بل ومحاولته اكتشاف ركام القناة الفرعونية القديمة وقناة عُمر ومشروع علي بك الكبير (1768-1773) بإعادة قناة الخليفة عُمر. ولكن لوبير وقتها رجح أن يكون الربط مباشر لا يمر عبر النيل خلافاً لما كان قبل ذلك، حتى تكون الملاحة في القناة مستدامة طوال العام لعدم خضوعها لبدائل الفيضانات وانخفاض مياه النيل.

والحق أن أول سان سيموني بعد بعثة أنفانتان أثار الحوار مرة أخرى حول مشروع لوبير لم يكن سوى أوجست كولان في إحدى "رسائل مصر" التي نشرها فى مجلة Les Deux Mondes عام 1838، والتي يستبعد فيها فكرة ترميم القنوات القديمة.

رأى كولان أن بناء خط للسكك الحديدية من القاهرة إلى السويس هو نمط من النقل يصلح لنقل المسافرين والبضائع قليلة الوزن، وأنه لن يصلُح في نقل البضائع الضخمة التى تُنقل عبر رأس الرجاء الصالح وتمثل القناة بالنسبة لهذه البضائع مكسباً لا يمكن الاستعاضة عنه في الوقت والمال. وأعلن بوضوح عن رأيه لصالح حفر قناة تأخذ أبسط الأشكال وهو خط مستقيم.

ولكن كولان في فكرة تخطيطه تجاوز مصر بوصفها دولة ذات سيادة على الأقل جزئياً. وفي عام 1840 كتب في أحد الصحف يقول إنه وفقاً لمعلوماته فإن تنفيذ خط السكة الحديدية بين السويس والقاهرة قد تعثر بسبب طلب الإنكليز إقامة حصون في الصحراء يقومون هم بحمايتها، وقد "رفض الباشا العجوز هذا الطلب"، ولذا رأى أن الأمر يستلزم الاتجاه نحو تأسيس شركة أوروبية ليس لها جنسية محددة يتكون رأسمالها من مختلف المساهمات الوطنية ويكون لها "طابع عالمي من شأنه تجاوز الشجارات الدبلوماسية ويكون لهذه الشركة "بعض الفصائل المسلحة" متعددة الجنسيات للحفاظ على التوازن العادل بين جميع الدول التي تتمتع بالمرور" ولمنع نهب "عرب الصحراء".

كان مشروع كولان ينفي السيادة والمصالح المصرية وهذا ما ظهر في كراسة الشروط التي أوضح فيها فكرة "تحييد البرزخ" والذي يعنى تخلي الباب العالي عن جميع حقوق السيادة أو الملكية على البرزخ و"الإعلان الرسمي بأنه لا يجوز أن يصبح ملكاً لأية دولة" وكذلك لن يكون لمحمد علي أي سلطة على المشروع.

وكانت الدراسات طوال تلك الفترة مستمرة حيث عكف كل من لينان دي بيلفون ولامبير في رسم الخرائط وجمع المعلومات بغية تنفيذ المشروع الكبير وأرسل لامبير لأنفانتان عام 1844 رغبته في أن يعتني بنشر المشروع في فرنسا. وفي 1845، نقل لامبير عن طريق القنصل الفرنسي الخرائط والذي بدوره نقلها إلى وزير الخارجية الفرنسي مما يعكس اهتمام الحكام الفرنسيين بالموضوع.

أما عن موقف إنكلترا فيقول السان سيموني بارو عن توقعاته بأن "لإنكلترا مصلحة سياسية في أن تكون ممتلكاتها في الهند أبعد ما يكون عن اتصال أوروبي بها"، وأنها سوف تعارض حفر قناة تمر فيها السفن التجارية لجميع الأمم. ولهذا السبب هو يرى أنها تدفع الوالي لبناء سكة حديد بين القاهرة والسويس بديلاً عن حفر القناة، بحيث تظهر فكرة حفر القناة كأنها عديمة النفع، وفي الوقت نفسه، يكون مد السكك الحديدية في مصر مفيداً بصورة حصرية للمسافرين الإنكليز.

كذلك رأى بارو أن الباشا "لن يوافق أبداً على منح أي شركة مشروع حفر القناة ولا بدرجة أقل - أياً كان الثمن" وذكر ما قاله محمد علي بأنه يملك الوسائل اللازمة ليقوم بهذه الأعمال بنفسه، ودون مساعدة رؤوس الأموال الأجنبية، وأنه سيطلب من فرنسا مهندسين لإدارة الأعمال ولكنّ هؤلاء المهندسين سيعملون لحسابه فقط.

وهكذا ففي مقابل اليوتوبيا العالمية للسان سيمونيين التي تركز على أوروبا وبصفة خاصة فرنسا، قدم محمد علي باشا اليوتوبيا الوطنية الخاصة به (أو اليوتوبيا الأسرية كما قد يقول بعضهم) والتي تُركز حول مصر التي تصالح وتحايد القوى الأوروبية بعضها على أساس استقلال دولته.

وقد أوضحت برقية من قنصل الإسكندرية بنيديتي في 1847 وجهة النظر تلك حينما نقل عن الباشا قوله "إنني سوف أحفر الخليج بمجرد اتفاق القوى على هذا المشروع، وبمجرد أن تحدد أوروبا التي ستستفيد أعظم الاستفادة من هذا المشروع حدود المزايا السياسية التى يجب أن تمنح لوالي مصر". إلا أن بارو ذكر أنه "في صميم قلب الباشا فإنه لا يريد أن ينجز أياً من المشروعين، لا القناة ولا السكك الحديدية" وأنه يجد ميزة في "إمكانية الاعتماد على إنكلترا لرفض القناة، وعلى فرنسا والنمسا لمعارضة السكة الحديدية" لأنه كان سيعطي موافقته في حال الاتفاق التام.

لماذا لم ينسب الفضل للسان سيمونيين في حفر قناة السويس؟
لقد بدأ تأسيس شركة عالمية لقناة السويس منذ 1844، وفي عام 1846 اجتمع الشريك البروسي والإنكليزي ستيفنسون والإخوة تالابو عند أنفانتان لتأسيس شركة "دراسات قناة السويس" وبدأ الجميع يتعاونون كلٌ في مجاله لتقديم الدراسات حول المشروع مع تحفظ الجانب الإنكليزي، والتزم محمد علي بجميع تعهداته ومنح التسهيلات اللازمة.

وبعد الدراسات التي قدمها فريق عمل تالابو، اتضح أن منسوب المياه متساو تقريباً في البحرين الأحمر والمتوسط، وأن الموضوع لا يشوبه أي شك، ومع ذلك رفض لينان تصديق النتائج، وهكذا أصبح المشروع في مجمله بحاجة للإعادة لأن كل التخطيط للطريق المباشر بين البحرين كان يقوم على أساس اختلاف حوالي عشرة أمتار تم قياسها عام 1799، فبدون اختلاف في المنسوب لن يكون هناك تيار، وبالتالي لن تكون هناك قناة عميقة.

وترتب على ذلك أنه كان عليهم إعادة الرسومات من البداية وتضاعفت التكاليف المتوقعة. وأخيراً، جاءت ثورة فبراير 1848 للقضاء على الآمال، إذ أثرت سلباً على العالم السياسي وأوساط الأعمال.

وبوصول الخديوي عباس للحكم حصلت إنكلترا على سكتها الحديدية التي أسرع ستيفنسون من أجلها بالتخلي عن شركة "دراسات قناة السويس".

وظل موضوع حفر القناة مُجمداً على هذا الحال حتى عام 1854 حيث أدى مقتل عباس ووصول سعيد إلى حُكم مصر إلى انطلاقة جديدة، فالمعروف أن فرديناند دليسبس كان مشاهداً متعاطفاً لبعثة أنفناتان عندما كان نائباً لقنصل الإسكندرية وعند وصول سعيد للحكم دعاه، إذ كانت تربطه به علاقة صداقة. والمعروف أن نقطة الانفصال الرسمية بين ديليسبس والسان سيمونيين تمثلت في مسألة المسار المباشر الذي قرره سعيد باشا بسيادة تامة، والواقع أن قيادة العمليات خرجت تماما من أيدي السان سيمونيين خلال عام 1855.

وهكذا ومن باب المُفارقة، فإن شركة الدراسات بإثباتها الخطأ في ما يتعلق باختلاف منسوب البحرين قد فشلت وهي بالقرب من نقطة الوصول!