واقع عربي منهار يحول دون مواكبة آنيّة

واقع عربي منهار يحول دون مواكبة آنيّة

30 يونيو 2023
"أعنف حبّ" لإليان الراهب: تفكيك رائع لحالات وانفعالات وحكايات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

مسألة أخرى يواجهها الناقد في مهنته، إزاء أفلام وثائقية عربية تحديداً: أحياناً، يطلب سينمائي/سينمائية منه إمّا عدم الكتابة عن فيلمٍ جديد لهما، وإمّا التريّث قليلاً قبل الكتابة، خاصة بعد أوّل عرضٍ له. سبب ذلك كامنٌ في حرصٍ سينمائي على عدم تعريض الفيلم لمشاكل رقابيّة، أو رغبة السينمائي/السينمائية في إتاحة مجالٍ أوسع لجولة له في مهرجانات، أو لوضوح مدى ومتى إمكانية عرضه التجاري.

لن أحلِّل مطلباً كهذا، فلكلّ سينمائي/سينمائية حجج وأسباب، يتفهّمها الناقد، لكنْ من دون الموافقة عليها، فمهنته ربما تساهم في إطلاق الفيلم وانتشاره. هناك من يخشى كلاماً "سلبياً"، يظنّ أنّه (الكلام السلبيّ) يؤثّر "سلباً" على "مستقبله". هناك من يُدرك "فعلته" السينمائية، منذ اختيار الموضوع، والتحضير له، إذْ يرتبط الموضوع بمحرّمات يضعها الرقيب العربي، الأمني والسياسي والاجتماعي والديني والعائلي، باسم "أخلاقٍ" و"قِيم" وموروثات منغلقة، ما يحول دون تواصلٍ مباشر بين الصنيع البصري والمُشاهد/المُشاهدة.

يُدركُ الناقد هذا تماماً، ويُحسِن الفصل بين قراءة تحليلية لمسائل مختلفة، وتجنّب الإشارة إلى ما "يؤذي" الفيلم في مقالته، خاصة عندما يُثير الفيلم حماسةً وتقارباً ومتعةَ مشاهدة، فيرغب في كتابةٍ، يُتقن تحصينها من أي أذية. ثم أنّ الأمّية العربية متفشية بشدّة، وغالبية المهتمّين/المهتمّات بالسينما تُفضِّل عدم القراءة قبل المشاهدة، والإعلام المرئي والمسموع غير مكترثٍ بهذا النوع السينمائي أصلاً، والتزامه خطوطاً حمراء، تضعها سلطات، تحكم مباشرة أو غير مباشرة، مُسيءٌ إلى المهنة أصلاً. لكنّ الرقيب، متنوّع الأوصاف، يلتقط نقداً يُفسّره كما يحلو له، كتفسيره فيلماً أو نصّاً أو عملاً فنيّاً.

 

 

يحترم الناقد رغبة سينمائي/سينمائية في التريّث قليلاً قبل الكتابة. يُدرك أنّ مسائل، تتعلّق بالعرض والتوزيع وتنظيم لقاءات، يحتاج إليها السينمائي/السينمائية. لكنْ، إلى متى؟ يريد الناقد كتابةً يُتقن صُنعها، كما يُتقن حجم الخراب العربي الحاصل في يوميات عيشٍ وعلاقات. يريد نقاشاً، أو محاولة نقاش. يبحث في الفيلم عمّا يدفعه إلى تواصلٍ إضافي لاحقٍ على المُشاهدة. يميل، أحياناً، إلى حوار مع السينمائي/السينمائية. لكنّ "عوائق"، أبرزها رغبتهما في عدم الكلام حالياً، تنهاه عن ذلك، فيؤجّل وينتظر وقتاً يراه، هو، مناسباً للكتابة.

مرّتان اثنتان يحصل هذا مع الناقد، أخيراً: "أعنف حبّ" (2021) لإليان الراهب، وHyphen لرين رزّوق (2022). قوّة الحكايتين، وجمالية اشتغالهما البصري، وإثارتهما مسائل، حسّاسة وواقعية وآنيّة، مرتبطة بالذاكرة والحرب الأهلية والعلاقات العائلية والعنصرية اللبنانية والمخدّرات، كما بالذات الفردية وهواجسها وخيباتها وانكساراتها وآمالها وتساؤلاتها المنبثقة من عيشٍ وتربية وتراكمات وموروثات، هذا كلّه (وغيره) يُثير حماسة للكتابة، ولمحاولة التفكير أكثر بمعنى الصورة الوثائقية اللبنانية، وبقدرتها على تفكيك حالةٍ وانفعالٍ، يبدآن بالفرد، وينفتحان على العام.

لكلّ مخرجةٍ منهما "أسبابٌ" يتفهّمها الناقد، فـ"يوافق" على التريّث في الكتابة عن فيلميهما. السابق مجرّد تفكيرٍ من دون أحكامٍ أو انتقادٍ. الواقعان اللبناني والعربي منهاران بشدّة، وأفلامٌ كهذه، لبنانية تحديداً، تزداد براعة وإبهاراً في معاينة الانهيار، المرافق لمآزق مادية وغير مادية معاً. هذا من دون التغاضي عن جمالياتٍ سينمائية، فرغم مرور وقتٍ طويل (تتفاوت مدّته بين الفيلمين) قبل إنجازهما، تبرز تلك الجماليات بتماسكٍ بصري متين الحبكة والسرد والصُور، مع ارتباكات فنية ودرامية قليلة، يرغب الناقد في مناقشتها، كتابةً أو حواراً... لكنّه "يتريّث".

المساهمون