هلال بيداروف: السينما شاعرية بطبعها وإلا فإنها ليست سينما

هلال بيداروف: السينما شاعرية بطبعها وإلا فإنها ليست سينما

15 نوفمبر 2023
هلال بيداروف: الطبيعة حزينة في أفلامي لأنّها تتشابه مع طبيعتي (إليزابيتا فيلاّ/Getty)
+ الخط -

 

هناك دائماً الأماكن نفسها، الأسئلة نفسها، الوجوه نفسها، والذكريات نفسها. هناك أيضاً صُور ضبابية، في جمالها الآسر، تُحيل إلى عوالم غريبة، وعتمة تخفّف من وقعها طاقة من نور. صُور تسكنها شخصيات غامضة وحزينة، صامتة وبطيئة الحركة في محيط مُقلق. صُور مؤطّرة بدقّة مذهلة، يرافقها أحياناً حوار شعريّ عميق المعاني.

تثير أفلام الأذربيجاني هلال بيداروف، في تكرارها وغموضها، الملل في المقام الأول. تذكّر ـ بأساليبها البصرية الجمالية، وإيقاعها المتمهِّل، واعتنائها بالصورة والمعنى ـ بالمخرج الروسي أندره تاركوفسكي، أو اليوناني ثيو أنجلوبولُس.

في "مسامير في دماغ" (2020)، تجوال شاب بين أنقاض ما كان، ربما، منزل طفولته، حيث ينفتح كلّ باب متهدِّم على الماضي. في "ما بين موت وحياة" (2020)، داود يبحث عن معنى لحياته. في طريق غامضة ورحلة غريبة، في يومٍ واحد، يجد نفسه متورّطاً في حوادث عدّة تتسبّب في موت من التقى بهم. المكان أساسي في أفلامه. يُعبّر عن شخصيات في حياتها الشاقّة، ومآلاتها الخائبة، ووقوفها على عتبة بين الموت والحياة. عن الإنسانية في بحثها الأساسي عن المعنى، وعن الذات والحبّ والحياة.

في فيلمه الأخير، "موعظة إلى الطيور" (2023)، تتكرّر العناصر والشخصيات في غابات أذربيجان. صُور الندوب التي تتركها الحرب على الإنسان، مع رجل وامرأة في غابة مظلّلة بضباب. الرجل (داود أيضاً) ببذلة عسكرية، والمرأة سورا، كأنّهما يختبئان في الغابة، كأنّهما مُطاردَان ومطرودان من مكان. هناك أيضاً صيّاد يحوم في الغابة. 3 شخصيات تتجوّل في محيط أخّاذ بجماله. أقوالها وتعابيرها تتيح المجال لتأويلات عدّة، منها الحرب في أذربيجان.

"موعظة إلى الطيور" سابع أفلام هلال بيداروف، والجزء الثاني من ثلاثية "قصص الحرب"، بعد "موعظة إلى الأسماك" (2022)، المعروض في الدورة الـ75 (3 ـ 13 أغسطس/آب 2022) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي". فيلمه الجديد هذا عُرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ36 (23 أكتوبر/تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"مهرجان طوكيو السينمائي الدولي"، حيث التقت "العربي الجديد" مخرجه بيداروف.

 

(*) يطغى على سينماك اهتمام بالمناظر الطبيعية (الحقول، القرى.. إلخ)، المُصوّرة بأسلوب أخّاذ. إنّها سينما تتّسم بالشاعرية. هل توافق على هذا الوصف؟

(مبتسماً) لا. لا أوافق إطلاقاً. السينما شاعرية بطبعها. إنْ لم تكن كذلك، فإنّها ليست سينما. أنا لا أصنع سينما شاعرية، إنّها هكذا في معناها، ولم أتعمّد تحقيقها على هذا الشكل. هناك حقيقة نسعى إلى البحث عنها، والطريق للوصول إليها شاعرية بحدّ ذاتها. كما يقال بالعربية "شعري"، أو متعلّق بـ"الأدبيات"، لكنّه ليس أسلوباً، ليس نوعاً (سينمائياً).

 

(*) لكنّه نوع سينمائي إذا ما قورن بأنواع سينمائية أخرى، تتمثّل في السينما الأميركية مثلاً.

آه، لا تقارني (مبتسماً دائماً). إنّها سينما مختلفة فقط. عمري 36 عاماً. شاهدت آلاف الأفلام، لكنّي حقيقةً، وفي أعماقي، لا أرى سوى فيلمين في كلّ تاريخ السينما، فيلمان فقط، لتاركوفسكي: "ستالكر" (1979) و"المرآة" (1975). في الأفلام الأخرى شغلٌ فحسب. يُمكن وضع السينما اليابانية على حدة، بفضل معلّمين كبار. أما السينما الأخرى، أكانت أفلام فنّ أو موضة أو تلفزيونية، فلا أرى اختلافاً بينها. إنّها ليست لي، ولستُ مهتمّاً بها، ولا تخطر في بالي. حين أفكر بفيلمٍ، يعبر "ستالكر" ذهني، وليس أبداً أيّ فيلم آخر من الأفلام التي شاهدتها. إنّها خارج خاطري.

 

(*) والسينما المعاصرة؟ ألا تهتمّ باكتشاف أسماء جديدة؟

شاهدت أفلاماً أخرى. لكنّ النوعية التي أشرتُ إليها لم تعد متوفّرة أبداً. دعيني أقلْ شيئاً آخر: زمن اكتشاف أفلام جديدة ومخرجين جدد ولّى. في الحقيقة، لا أتوقّع جديداً. كلّ ما يجب أنْ يحدث في السينما حدث، وأنا مكتئب بعض الشيء بسبب هذا. لا أرى أيّ مستقبل أفضل للسينما. "فاوست" لألكسندر سوكوروف آخر فيلم جيّد شاهدته، وكان ذلك عام 2011.

 

(*) لنعد إلى سينماك، ونبتعد عن الشعرية. لنتحدّث عن اهتمامك بتصوير المناظر الطبيعية، ومواضيع أفلامك التي يسودها كذلك شيء من العبث والكآبة والزمن الذي لا يمرّ.

أوافق على هذا، نوعاً ما. يُمكن القول إنّي مهووسٌ بالفن المعماري. ماذا يعني هذا؟ إنْ لم أصوّر في الأبنية، فلا يعني هذا أنّي أبحث عن تصوير المناظر فقط. للطبيعة عمارتها الخاصة الجميلة، أما ما يصنعه الإنسان من عَمَارٍ، فلا أجد فيه جمالاً، بل إنّه قبيح تماماً، ولا يناسب الطبيعة البشرية. أصوّر المناظر لأنّها تُغذّي حاجتي، وتمنحني ما أبحث عنه، وبالتالي يُصبح اللجوء إليها أمراً منطقيّاً. ما يهمّني لا أجده في المدن والأبنية والمصانع. ربما عليّ أنْ أبنيه بنفسي، لأحصل على طلبي. العمارة مهمّة لي حقّاً، وأحياناً يكفي أنْ تُغيّر في مواضع الأشياء، الأحجار والكراسي، لتنتقل إلى زمن آخر.

من خلال صورة، تظنّين أنّك في القرن الـ15. لنقل إنّ للصُور عمقها الخاص. روتكو (مارك روتكو، رسّام أميركي، روسيّ الأصل، اشتهر برسم المدينة بحيوية بعض أماكنها أو عزلتها، 1903 ـ 1970 ـ المحرّر) يتيح الإحساس بهذا النوع من المباني الذي أبحث عنه، فلماذا لا أصوّر أبنية مدينية مشابهة؟ لأنّي لا أجدها حولي، وليس بمقدوري تركيب ديكور في أفلامي ذات الميزانية الضئيلة. لذا، أصوّر الطبيعة. الطبيعة الحزينة؟ أوافقك. حزينة لأنّها تتشابه مع طبيعتي. الطبيعة عالم سحري جداً. طبيعة الفن والطبيعة البشرية، كلّها واحدة.

 

(*) من مكوّنات أفلامك السابقة أيضاً، وليس الفيلم الأخير، شخصية الأمّ. أمّك. إنّها هنا دائماً. هل هذا لدواعٍ شخصية؟

نعم. هذا متعلّق بشأن شخصي، فأمي إلهتي، وأنا أعبدها. إنّها كلّ شيء. توقّفت عن تصويرها لأنّها بلغت 71 عاماً، وهي متعَبة. قالت لي: "هلال، أنت تأخذ كلَّ يومي، من فضلك لا تُصوّرني بعد اليوم". لذلك لم أعد أصوّرها، وليس لأيّ سبب آخر. هي لا تستطيع أنْ تبقى أمام الكاميرا طول اليوم، لمدّة شهر، خلال التصوير. لكنْ، سيكون لها مكان في أفلامي دائماً، إذا أرادت أنْ تمثّل. لا، ليس تمثيلاً ما تفعله، إذا أرادت أنْ تكون في أفلامي.

 

(*) يُمكنك الاستعانة بممثلات لأداء دور الأمّ، لكنك لا تفعل. لا بدّ أنّ هناك سرّاً.

لا أرغب في هذا طالما أنّ أمي لا تزال على قيد الحياة. لا أعرف السرّ. في الواقع، أعرف. لكنْ، دعيني أقل لا أعرف (ضحك. ثم لحظة صمت تابع بعدها). لأمّي نور خاص. تمتلك رؤية غريبة جداً، وعلاقة خاصة مع الأشياء والحقيقة. تعرف كلّ شيء وترى كلّ شيء. إنها شخص مختلف تماماً. قال لي مخرج شهير إنّها شخصية عظيمة، وإننا لسنا بحاجة إلى الحديث معها لتفهم دواخلنا. هي لم تدرس ولم تقرأ كما فعلتُ، لكنّها تستشعر وتُحسّ سرّ معنى الحياة وأصلها. في أفلامي، يحضر الأشخاص أنفسهم. داود أيضاً، إذا مات، سأتوقّف عن صنع الأفلام. أعمل دائماً مع الأشخاص أنفسهم. أفلامي حميمية مع أشخاص حميمين. إنْ صوّرتُ أمّاً في أفلامي، فهي أمّي.

 

 

(*) هل لهذا النوع من السينما جمهور في أذربيجان؟

طبعاً لا. لا أحد. فقط أمّي يُمكنها مشاهدة أفلامي. دعيني أخبرك شيئاً سيثير ضحكك. أمّي لا تحبّ أفلامي كلّها. تشاهدها ولا تحبّ أيّاً منها. تقول لي: "بعد أنْ تصوّر 40 فيلماً، ربما ينتهي بك الأمر إلى تحقيق شيء. لكنْ، ليس الآن".

حين صوّرت "ما بين موت وحياة"، أريتها مَشاهد أولى قبل انتهائي منه، كنت محتاراً بشأنها. قالت لي: "أحبّ هذا، لكنّه ليس فيلمك. غيّرْ كلّ شيء". شعرت بالاكتئاب حقاً، فماذا عليّ أنْ أفعل؟ غيّرت كلّ شيء. كلّ شيء. أريتها النتيجة، فقالت: "هلال. هكذا لا أحبّه، لكنّه فيلمك. إنّه سيئ، لكنّه فيلمك". في التصوير أيضاً تُعذّبني كثيراً. صعبٌ جداً تصويرها. أعاني ذلك كثيراً. إنّها مهووسة بالنظافة، ولا تُقيم في مكان ليس مكانها وله أغراضه، فتحضر معها حاجياتها وأغطيتها، ولا ترضى باستخدام ما نجلبه. كنت أتوسّل إليها لتقبل الجلوس على الصوفا مثلاً، ولو مرة واحدة. تقول رأيها في كلّ شيء بناء على طلبي. نوعيّة الصورة، وحتى الموسيقى تُنبهني إنْ بالغت في استخدامها. لكنّها لا ترضى بأنْ يُكتب اسمها في الشارة، مع أنّها تساهم في المونتاج. تقول: "إنّه فيلمك. اكتب اسمك فقط".

 

(*) ووالدك؟ ربما تجد سؤالي خصوصيّاً، لكنّك لا تذكره، ولا نراه في أفلامك.

توفّي أبي حين كنتُ في المدرسة. كان دائماً في عمله، في مجال النفط. أمي ربّتني. كلّ ما أتذكره من طفولتي: أمّاً تنتظر عودة زوجها، الذي يعمل لأجلنا، ويحضر المال كي أدرس. كان أبي هادئاً، وذا شخصية قوية ومُثيرة للاهتمام. لا أعرف كيف التقيا، فأحدهما يتعاكس تماماً مع الآخر.

 

(*) هل عرض أيّ من أفلامك في أذربيجان؟

عرض "ما بين موت وحياة" في صالة سينما. فيلمي الأخير سنعرضه أيضاً. لكنْ، هناك قواعد متشدّدة عندنا لعرض فيلم في الصالات. يعرضونه 5 أيام كتجربة، "جسّ نبض" الجمهور. إذا لم تعجبهم النتيجة، يوقفون العرض. ربما أنا أيضاً لا أفعل ما يلزم للترويج لأفلامي. ما يهمني فقط العرض الأول، أي أنْ يُطلق فيلمي في مكان ما، وبعدها ليحصل ما يحصل. أنا أعرف أنّ أفلامي ليست للجمهور، وإنْ أحبّه بعضهم. لكنّي لا أريد مجرّد المحاولة. أرغب في أنْ أكون حرّاً بعد عرضه الأول. لا أميل إلى إضاعة طاقتي أو "نوري" (قالها بالعربية) في الترويج للفيلم. لا صبر لي لمحاولة عرضه أمام الناس.

 

(*) لكنْ، هل لديك عمل آخر غير الأفلام؟

لا، هذا كلّ ما أفعله.

 

(*) كيف تعيش إذاً؟

لا مسؤولية لديّ. أنا عازب. عندي بيت. منذ 10 سنوات، أعيش في عزلة، ولا أعمل إلاّ الأفلام. هذا قدري. ماذا عليّ أنْ أفعل؟ ربما لو كان لدي أبناء، لتغيّر الوضع، ولشعرت بالتوتّر من هذا الوضع.

 

(*) نعم. يبدو من أفلامك ميلك إلى العزلة. تعود دائماً إلى الأماكن نفسها، وتتناول الأسئلة نفسها، وتستعين بالوجوه نفسها، وتعاودك الذكريات نفسها.

دائماً وحدي. لا أعرف أشخاصاً كثيرين. لكنّي لا أشعر بالوحدة، لأنّي عشتُ هكذا باستمرار منذ بلوغي 6 سنوات. كنت دائماً أفكّر في صنع أفلام، وأستمع إلى الموسيقى المعاصرة كثيراً، لا سيما مسيان وأرفو بارت، الذي أعتبره أعظم موسيقي معاصر. (إنّه من أستونيا ـ المحرّر). كما أحب القراءة والرسم، والفنون كلّها. هذا قدري، وعليّ قبوله. أنا أتبع الطبيعة، التي هي الأمّ.

 

(*) وكيف أتيت إلى السينما؟

كنت دائماً في السينما.

 

(*) في مشاهدتي فيلمك الأخير، ألح عليّ سؤال: هل المناظر توحي لك بالسيناريو، أمْ أنّك تكتب السيناريو، وتبحث عن مناظر ملائمة له؟

الاثنان معاً. في "ما بين موت وحياة"، هناك مشهد الضباب. فيه، على داود أنْ يجتاز المكان قبل انقشاعه. هناك 3 دقائق فقط أمامه ليفعل ذلك، وهو على درّاجته النارية. كانت أمامنا فرصة وحيدة لتنفيذ المشهد، ليس علينا إتلافها، وهكذا كان. حينها، ألّفت الكلمات التي سيلقيها (شعرية) أثناء عبوره. أحياناً يتقرّر مشهد في التصوير.

 

(*) أنت شاعر أيضاً. الحوار في أفلامك كأنّه قصائد. هل كلّه من تأليفك، أمْ أنّك تستعين بشعراء آخرين؟

أؤلّف الشعر، وأحبّ كتابته وقراءته جداً. في بداية هذا الفيلم، هناك بيتان من الشعر من تأليف الشاعر فضولي (وُلد في كربلاء عام 1483، وسكن بغداد. كتب بالفارسية والعربية والتركية بلهجتها الأذربيجانية ـ المحرّر)، وأشرت إلى ذلك. إنّه مَثَلي الأعلى في الشعر (كان يُحدّثني عن الشاعر فضولي، وشعراء آخرين، لكنّ وقت المقابلة انتهى ـ المُحاورة).

المساهمون