هل الميكافيلية طبيعة بشرية؟

هل الميكافيلية طبيعة بشرية؟

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
كانت إحدى قواعد نجاح الأمير في حكمه، والتي وضعها ميكافيلي (1469- 1527) في كتابه "الأمير"؛ هي أن يقوم الأمير بقتل أفراد أسرته لتدعيم مُلكه، كما فعل روميلوس الذي قتل أخاه وشريكه في الحكم لكي ينفرد بالسلطة ويوطد سلطانه، وكذلك فعل بروتس الذي حكم على أولاده الخمسة بالموت لكي يستمر عرشه.. وقد علَّل ميكافيلي ذلك بقولته الشهيرة: "الغاية تُبرر الوسيلة"..

تلك القاعدة التي كانت أحد أهم أسباب الهجوم على ميكافيلي وكتابه، إلا أن من يُمعن النظر في الأمر يجدها قاعدة قديمة قِدم الإنسانية..

فمنذ بداية الخلق، نتذكر قصة قابيل وهابيل، اللذين قدَّما صدقةً قربةً إلى الله سبحانه، فتقبل الله صدقة هابيل؛ لصدقه وإخلاصه، ولم يتقبل صدقة قابيل؛ لسوء نيته، وعدم تقواه، فقال قابيل لأخيه هابيل: "لأقتلنك"، بسبب قبول صدقتك، وعدم قبول صدقتي، فكان رد هابيل على أخيه: "إنما يتقبل الله من المتقين"، وبالرغم من كون رد هابيل على أخيه قابيل كان ردًا فيه نصح وإرشاد؛ حيث بيَّن له الوسيلة التي تجعل صدقته مقبولة عند الله، ألا وهي التقوى، وصيانة النفس عن كل ما لا يرضاه الله سبحانه، إلا أن رد قابيل على أخيه كان بالقتل..
ولو عاد ميكافيلي إلى الوراء قليلاً قُرابة قرنٍ من الزمان؛ لوجد من قنَّن تلك القاعدة، والتي كانت أحد أهم أسباب تداعي الدولة العثمانية، عندما أقرها بدايةً السلطان مراد الأول (1324- 1389)، الذي ورغم اشتهاره بشجاعته وفتوحاته التي قادها بنفسه فكان السلطان الوحيد من بني عثمان الذي استشهد في أرض المعركة فلُقب بالسلطان الشهيد؛ إلا أنه استصدر فتوى لقتل أخيه أولاً ثم ابنه ثانيًا عندما نما إلى علمه عزمهم الانقلاب عليه. وصارت قانونًا فيما بعد منعًا للبغي على الدولة.

ربما يملك البعض مبررات تدعم هذا الفعل كما فعل ميكافيلي، كما يملك آخرون مبررات لرفض ذلك كما فعل مُهاجموه.. لكن ما شغلني أمر آخر.

لماذا قتل قابيل أخاه بينما كان قادرًا على التفكير بشكلٍ آخر، ومحاولة تزكيةِ نفسه وتحري التقوى والتقرب من الله –عز وجل-؟!!

لماذا قتل هؤلاء الحكام أقرباءهم بالرغم من أن كان لديهم العديد من الأساليب الأخرى بدءًا بالنهي والتحذير، وربما الترغيب أو حتى الترهيب، وانتهاءً بالعقاب الذي قد يصل إلى حد السجن؟! بل ولم افترض في الأساس أو سلّم بافتراضات الآخرين بكون هؤلاء يسعون إلى الانقلاب عليه؟!! –لا أنفي هنا احتمال حدوث الافتراض وإنما فقط أسعى إلى تحليل عقلية المُفترض-..

يستحضرني موقف آخر بسيط، لكنه ربما يساعدنا على التفسير..
حضرت ذات مرة إحدى الدورات في التنمية البشرية، فقام المدرب بلعبةٍ؛ أخرج فيها مجموعة من المتدربين وأعطى كلاً منهم "بالونة ودبوسا"، وأخبرهم أن الفائز في اللعبة هو من سيحتفظ بـ "بالونته" حتى آخر اللعبة دون أن يفقدها.. فما كان من الجميع إلا أن هاجم كلٌ منهم الآخر بالدبوس دون تردّد، فحرص جميعهم على إفساد بالونات بعضهم، قدر حرصهم على الاحتفاظ ببالوناتهم. وعندما استطاع أحدهم في الأخير الاحتفاظ ببالونته رغم هذا الهجوم الشرس والمعركة المستعرة؛ تساءل المدرب ببساطة: لم قررتم الهجوم على بعضكم بينما لم أطلب ذلك؟ فتبدّلت ملامح الانتصار في وجه الشاب الفائز إلى ملامح دهشة واستغراب، وكأنه يُراجع ما طلبه المدرب في البداية، ليبادره المدرب بقوله: طلبت منكم فقط الاحتفاظ بما تملكونه؛ فلم ترجمتم طلبي على أنه طلب للاعتداء على ممتلكات الآخرين بينما لو وقف كلٌ منكم مكانه محتفظًا بما يملك لصار فائزًا وفاز الجميع؟

حقًا كان يمكنهم جميعًا الفوز ببساطة؛ لكنّ أحدٌ لم يفكر في ذلك..
وهنا تتبادر إلى ذهني عدة تساؤلاتٍ؛ لمَ سعى كل هؤلاء للهجوم على الآخر بدلًا من محاولة الاحتماء بإحدى القلاع الأخرى ولو حتى كمحاولة قبل شنّ هذا الهجوم الشرس على الآخرين؟ وهل للإنسان أن يُحاكم غيره على نواياه؟ وهل الميكافيلية طبيعةٌ بشرية؟

في الإسلام لا يُعاقب الفرد على النية/ القصد دون اقترانه بعمل؛ فمن حدَّثته نفسُه بقتلِ أحدهم لا يجوز تنفيذ حد القتل عليه حتى يقتله، ليس لأن الإسلام يشجع الجريمة؛ ولكن لأنه ليس من العدل أن يُحاسَب أحدهم على جريمة لم يقترفها. وفي الحديث "إنما الأعمال بالنيات" قال النبي "الأعمال" مما يعني أن الحساب على "العمل" يكون بحسب نية صاحبه؛ ولكنه لا بد أن يكون عملا حتى يستوجب الحساب وليس نية فقط وهو من عدالة الإسلام..

وأخيرًا؛ يبدو لي أن تلك القاعدة الميكافيلية التي يتبنّاها البشر؛ ربما هي ناتجة من خوفٍ من المجهول، أنتج ترصُّدًا للآخرين، ورغبةً في تلافي الخطر المُحتمل من قِبلهم. ولا أجد حلًا لها سوى في قولِ هابيل لأخيه "إنما يتقبل الله من المتقين"..
فإن غابت التقوى؛ فاز الأقوى..