نانسي منير... نفوس في نزهة تراثية معاصرة

نانسي منير... نفوس في نزهة تراثية معاصرة

25 اغسطس 2022
يحوي ألبوم "نزهة النفوس" ثماني طقاطيق (عصام عبد السلام)
+ الخط -

أطلقت، أخيراً، العازفة والمؤلّفة الموسيقيّة المصرية نانسي منير، ألبومها الأول بعنوان "نزهة النفوس" من تسجيلات سمسارة، بعد ست سنوات من العمل والبحث والتنقيب. ترعرعت نانسي مع أخيها ماهر (العازف والملّحن) في مناخ موسيقي متنوّع، ما انعكس على مشاريعها بوضوح. البداية كانت من الأسرة، الأب يعزف الأكورديون والأم تعزف الريكورد في كورال الكنيسة بالإسكندرية، لتقف نانسي على المسرح لأول مرة في عمر الـ 17.
البيئة الموسيقية المتنوّعة، والبداية السماعية في العزف، هي العوامل المؤسِّسة لجعل نانسي قادرة على تعلّم آلات مختلفة بعد البيانو، لتصبح لاحقاً الكمنجة هي آلتها الرئيسية، ويصب العمل على الألحان المستنبطة من الآلات العديدة في مشروع واحد. لا تظهر نانسي في واجهة أي عمل فني، فهي تفضل العمل الجماعي مع الأشخاص أو مع مجموع الأصوات، كالتي ركبتها معاً في "نزهة النفوس". فحتى مشاركتها الصوتية في مشاريع أُخرى، كانت بتوظيف الصوت كآلة لا أكثر.
كانت بداية نانسي منير الفعلية في فرقة "ماسكارا" مع صديقتها شيرين عمرو. فتيات من الإسكندرية يعزفن ألحان ميتال، وكانت تجربة عربية تحمل بذور توظيف جديد للكمنجة في ألحان ميتال.
ساهم أيضاً توزيعها لألبوم دينا الوديدي "تدور وترجع" بإغناء تجربتها؛ فأخذ الألبوم صدى واسعاً حينها مع التغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بعد ثورة يناير 2011. عملت نانسي في تدريس الموسيقى في مدرسة في القاهرة، وضاعفت خبرتها بالاشتراك في ورش فتحي سلامة وكاميليا جبران.


التقت نانسي منير خلال الورش مع شباب جيلها الذين كونوا فرقاً شكلت المشهد البديل المصري والعربي، كـ "مسار إجباري" و"شارموفرز" ودينا الوديدي. زاد عملها مع فرقة الورشة المسرحية في تطوير أدائها الحي وأسلوب توزيع الألحان، كما أنها قدمت موسيقى تصويرية لفيلم "يوم الحداد الوطني في المكسيك" إخراج خيري بشارة، وعملت مع تانيا صالح على ألبومها "تقاطع".
يحوي ألبوم "نزهة النفوس" ثماني طقاطيق. محاولة قراءة وترميم وإعادة توزيع أعمال مطربي ما قبل مؤتمر 1932 الذي ساهم في توحيد المقامات وتشكيل مرحلة الطرب، المعروفة اليوم بحقبة الطرب الأصيل. بعد بحث شامل لتلك المرحلة ومطربيها، خلقت نانسي تآلفات هارمونية، ووزعتها على التسجيلات نفسها، مع حفاظها على الخربشات الصوتية والمساحات الفارغة الموجودة في تسجيلات ذاك الزمن على غرامافون 78 لفة في الدقيقة، بعيداً عن السائد والتجاري، وانطلاقاً من الحصيلة الموسيقية المختزنة. استطاع الألبوم أن يصل الجمهور بشكل مباشر وحداثي مع التراث.
الأغنية الأولى هي "ياعينك يا جبايرك" لسلطانة الطرب منيرة المهدية (1885 – 1965)، واسمها الحقيقي زكية حسن منصور. أول مغنّية عربية وقفت على خشبة المسرح، وأوّل من سُجلت لها أسطوانات موسيقية. أتى عنوان الألبوم "نزهة النفوس" من اسم المكان الخاص بمنيرة المهدية. مكان للترفيه يجتمع فيه البرلمان ومجلس الوزراء ورجال الفكر والسياسة والصحافة. تتحوّل كلمة ترفيه حسب التوجّه السياسي لمستخدمها، لكن العبارة الثابتة حينها "هواء الحرية على مسرح منيرة المهدية".


تبدأ الطبقات التوزيعية بالكشف عن نفسها من أوّل أُغنية في الألبوم، وتوظيف نانسي للآلات، كآلة الثيرمين والكمنجة والإيقاعات والبيانو. الأغنية الثانية أيضاً لمنيرة المهدية "بعد العشا". ومن اللافت عند سماع الطقاطيق الانتباه، إلى خليط الكلمات بين العامية والفصيحة، ولا توجّس فيها ما بين ذكر وأنثى، خليعة، خادشة للحياء بعد مؤتمر 1932، دليل للولع والعشق لما قبله. ومن الواضح إعجاب نانسي بسلطانة الطرب خلال المقابلات، فالسلطانة كُتب اسمها بالذهب في كتاب ملك إيطاليا.
حامل راية الغناء المصري وعازف قانون وأحد أساطين الفن العربي صالح عبد الحي (1889 – 1962) ضم الألبوم أغنيته "خفيف خفيف". يتجلى فيها توظيف الأصوات بوضوح، وتتشكل مساحة أخرى في الأغنية يختفي فيها ما أضافته نانسي منير، وما في التسجيل الأصلي، لتكون الرؤية الحاملة للألبوم جسراً متيناً نمرّ من خلاله إلى التراث، التراث كما هو من دون إعادة صياغة أو تجديد. عملت منير أيضاً على أغنية "تعال يا شاطر نروح القناطر" لنعيمة المصرية (1894 – 1976). كانت بداية نعيمة الفنية في حلب بعد هربها من منزلها في مصر، وعادت إليها بعد ثلاث سنوات لتتلمذ على يد سيد درويش، ولقبت لاحقاً بملكة الأسطوانات. ففي رصيدها ما يقارب الـ 150 أسطوانة. تمرّد نانسي الفني يشبه كل من تعاملت مع تسجيلاتهم في ألبومها، فالتدقيق على الأبعاد الميكروتونية على طول 34 دقيقة للألبوم، يقدّم انطباعاً حول نزهتها الشخصية في اكتشاف تلك المرحلة الزمنية، عمل لم تقم به مؤسسة أو فرقة أو فرد من قبل.
تتقاطع مفاهيم الموسيقى حينها مع تأثيرات ثورة 1919، وما قدمته من انفتاح وتنوع، وتظهر في أغنية "والله وتستاهل يا قلبي" لحياة صبري (1885 - 1956) ملهمة سيد درويش. حياة التي عاشت إلى جانب قبر ابنها بعد استشهاده في حرب 1956، ومع فقدان أرشيف هائل وعدم وجود دراسات أكاديمية جدية لتوثيق وتحليل التلحين والكتابة للأغنيات في ذاك الزمن، يصبح الاجتهاد الشخصي هو السبيل الوحيد، بغض النظر عن جودته.

أغنية "يا بنت يا بيضا" موجودة في الألبوم، ومن اللافت في هذه الأغنية سرعة الغناء، والتزام نانسي بالتفاعل مع زكي أفندي مراد خلال أدائه. زكي أفندي (1880 – 1946) هو خليفة الشيخ سلامة حجازي على المسرح، وأداؤه تفاعلي مع الجمهور في المرتبة الأولى، فعملية التوزيع على التسجيل وحتى الأداء الحي للألبوم في حفلات نانسي العديدة، تعتبر عملية مرافقة للأداء. اختار سيد درويش زكي أفندي لأوبريت "العشرة الطيبة". ورغم أرشيفه الطويل، فإن ما نملك منه فتاتاً لا أكثر. حقّقت ليلى مراد ومنير مراد، أولاد زكي أفندي، شهرة أوسع بسبب طريق السينما المعبّد بالنجاحات المضمونة.
الأغنية قبل الأخيرة في الألبوم، "أنا بس ساكتالك" للممثلة والمغنية فاطمة سري (1904 - 1975) صاحبة أول قضية إثبات نسب ضد محمد بك الشعراوي ابن رائدة تحرير المرأة حينها هدى شعراوي. وقضيتها التي انتصرت فيها أدت إلى سحب عدد كبير من أعضاء البرلمان والقضاة والباشوات إلى المحاكم، وحُكيت قصتها في فيلم "فاطمة" (1947)، من بطولة أم كلثوم وإخراج أحمد بدرخان.


آخر أغنية هي "ماتخافش عليا"، للشخصية الأكثر إثارة للجدل في زمنه، عبد اللطيف البنا، ولقب بكروان مصر وأمير المطربين. أغنية بسيطة وسلسة، عملت نانسي منير بدقة على إظهار ما يثير الاهتمام في صوت عبد اللطيف الأنثوي؛ إذ لم يكن مشكلة في ذاك الزمن، بل كان العمل حسب المطلوب لا أكثر.

تستمر نانسي منير في عروضها الحية للألبوم، مع تجديد دائم وتنويع في إدخال آلات جديدة خلال هذه العروض. وبعد أن بنت مشروعها وحدها، وأعادت صياغة هذا التراث من وجهة نظرها، ووضعت توليفاتها الخاصة على هذا الأرشيف، نجد العديد من الأسئلة أمامنا: لماذا اختفت هذه الأسماء من الذاكرة الجمعية؟ كيف استطاع هذا التراث استيعاب كل التحديثات ومدى مرونته؟ لماذا لا نملك أرشيفاً رسمياً يحفظ هذه التسجيلات للعودة إليها ودراستها؟ والأهم هو سؤال الكلمات وتحولها إلى ما قد ندعوه حباً عذرياً، ووصمها بعار خدش حياء المجتمع اليوم؟ والكثير من أسئلة الفن والمال والسياسة.

المساهمون