موسيقي السوشيال ميديا... ذلك الإنسان الخطّاء

موسيقي السوشيال ميديا... ذلك الإنسان الخطّاء

19 ديسمبر 2021
يبدو أنّ على الفنان التكيّف مع واقع يسمح لأيٍّ ممن يشاهد أن يُسجّل ويُصوّر (Getty)
+ الخط -

"لطالما اضطلع التاريخ بمهمة غربلة الفن". هكذا، تكلم المؤلف الموسيقي الأخّاذ، البرازيلي ماركوس بالتر Marcos Balter، في حديث له مع مُضيفة سلسلة البودكاست "تعرّف إلى المؤلف" (Meet The Composer) عازفة الفيولا الأميركية ناديا سيروتا.

أتت الجملة في سياق إبداء بالتر حرصه على التمسك بسمة الشجاعة حيال ارتكاب الخطأ، ومن ثم التعلم منه، وبالتالي احتضان الفشل طريقاً نحو مزيدٍ من النضج والتطور؛ إذ ليس بالضرورة أن يرتقي كل ما يُنتجه المبدع إلى المستوى المأمول. وإن للعباقرة، كموتزارت وبيتهوفن، زلّات وعثرات وإنتاجات رديئة، تكفّل التاريخ بتنسيقها ومحوها من ذاكرة الإنسانية.

كان ذلك زمن التاريخ على امتداد ستة آلاف عام مضت، أي منذ اختراع الكتابة. مع اندلاع ثورة المعلومات، دخلت البشرية ما يُسمّيه الفيلسوف الإيطالي لوتسيانو فلوريدي حقبة التاريخ المُفرط (Hyperhistory). فيها، لم تعد الآثار الإبداعية تُقيّد نصوصاً مخطوطةً على ورق، قد يُتلف، يضيع أو يحترق، بل صارت توثّق رقمياً على حواسيب وهواتف محمولة، إلى أمدٍ ليس معلوماً طوله بعد. علاوةً على ذلك، سواء بُعيد التبلور والاكتمال، أو خلال التجريب والاختبار، بات من الممكن نشرها ومشاركتها على منصات السوشيال ميديا، أو بثّها عبر خدمة التدفق المباشر Streaming، بعلمٍ ورضىً من مُبدعيها، أو من دون أيٍّ منهما.

يسعى الحاضرون إلى توثيق اللحظة الإبداعية بدلاً من عيشها

من شأن تلك الحال أن تكشف المُبدع أمام مرأى العالم ومسمعه، وتجرده من درعٍ منحه إياها التاريخ في ما مضى، حين تسنّى له أن يقرر إلى حدٍّ بعيد ما سيُنشر من إبداعه ويبقى، وما سيُلقى في سلة المهملات. لا يعني هذا أن ما من نصوصٍ وألحانٍ أو نتف من مقاطع أدائية، أمكن تسريبها بفعل السرقة، أو بمحض الصدفة، قد ثبت الغثّ منها والسمين. وإنّما ظلّ لمالك المُنتَج الفني، أو الجهة المُحررة والمنتجة، مساحة أرحب لإجراءات التنقيح والتنضيد والتلميع، يليها القرار النهائي والمتأني بشأن ما يود له أن يعبُر إلى المتلقي، تتبعه الكيفية والحيثية التي سيجري بواسطتها العبور.

أما اليوم، زمن التاريخ المُفرط، فبينما يُغني فنانٌ أو يعزف خلال حفلة صغيرة، أو جلسة سمر، في مكان مغمور أو ناءٍ، حيث لا نوعية صوت مثالية ولا بيئة ملائمة، أو مزاج حسن يضمن أفضل معايير الجودة الممكنة، ثمة أحدهم، أو أكثر، يُسجّل على هاتفه المحمول مقطعاً مرئياً أو صوتياً لما يسمع ويشاهد، ومن ثم يرفعه في اليوم ذاته أو في الأيام التي تليه على إحدى منصات الإنترنت، ليُصبح على مرأى الملايين ومسمعهم. مرّات، وفي بعض البلدان، تكون الإجراءات القانونية المُتعلقة بحقوق النشر والخصوصية كفيلة بإزالة التسجيل أو الحد من انتشاره. وفي أغلب المرات، يعيش التسجيل ليبقى وثيقة رقمية لسنين أو لعقود طويلة، شاء المُسجَّل أو لم يشأ.

إلّا أن تلك الهشاشة وذلك الانكشاف في وجه سرعة غير مسبوقة في توثيق المعلومات، ومن ثم مشاركتها مع عمومٍ قد يكون بسعة الكرة الأرضية، لهما مظهرٌ آخر أكثر طوعية، نابعٌ من ذات الفنان نفسه. يتمثل بالجري المُغري خلف حلقات الردود المُكيّفة للأنا Ego Feedback Loops، التي يُحدثها الحضور المستمر والمتواتر على منصات الإنترنت. إذ غالباً ما تُعقْلن اللذة الناجمة عن الانصياع لطيْب اللايكات، بضرورات ما بات يُعرف بـ "صناعة المحتوى"، وأهميتها لجهة تمكين المُبدع على السوشيال ميديا، وتأمين اتصال مطّرد بجمهورها، فضلاً عن توسيع الجماهيرية بمفهومها العريض.

أصبح الذكاء الاصطناعي يصنع موسيقى تبلغ حد الكمال التقني

حضورٌ قد يتحول مرات بفضل النقدنة Monetisation إلى إيرادات وعوائد ربحية، تتجاوز قيمتها المعنوية إلى المادية، وبالتالي تخلق حوافز إضافية، الأمر الذي يُحفّز المزيد من توثيق أكبر عدد ممكن من الإنتاجات، ثم الإسراع بنشرها ومشاركتها، من دون التفكّر في أكثر الأحيان، في مدى حسن وفرادة ما يُطرح على الملأ، فالتريّث خشية انقلاب الإسراع إلى تسرّع.

زد على ذلك، وباء كورونا العالمي. فبفضل سياسات الإغلاق، لم تعد السوشيال ميديا مُكملاً لإطلالة الفنان على المسرح، وإنما المنصة الوحيدة لوجوده وتواصله مع الناس. كل من العزلة والخوف على مستقبل المسيرة المهنية، إذا ما استمر إلغاء الحفلات وتأجيلها عقب كلّ ظهورٍ لسلالة جديدة ومتحوّر جديد، يؤدي إلى مزيد من الهوس بصناعة المحتوى، سواء لأجل رفع المعنويات، أو في سبيل الإبقاء على الحضور بين الجمهور، ريثما تعود الحياة إلى سابق طبيعتها. وكأن أيّاً من الإلهام أو المفهوم، الفكرة والقصة أو القضية، لم يعد الدافع وراء المُنتج الإبداعي، وإنما البقاء على "فيسبوك" أو "إنستغرام". بقاءٌ يقتضي إمطار المنصّة بالمنتجات، مع استحالة التمسك، في ذات الوقت، بمعايير الجودة، أو الأسس الفكرية والجمالية لما يُرفع ويشارك كلَّ أسبوع، وكلّ نهار وليلة.

حتى الآن، تبدو قوننة السوشيال ميديا وتأطير السلوكيات المرتبطة بها بأحكام وأعراف اجتماعية أو مهنية، أبعد ما تكون عن المنال. إنّها لسيرورة اجتماعية - سياسية، ستتطلب سنين، إن لم يكن عقوداً. فيما يبدو أن على الفنان التكيّف مع واقع جديد، يسمح لأيّ ممن يسمع ويشاهد أن يُسجّل ويُصوّر.

وعلى الأغلب، سيجد ذلك التسجيل طريقه إلى هاتف أحد الأصدقاء، أو سيجري رفعه ومشاركته حول العالم. بذلك، يبقى قبول الأمر والتسليم به أفضل السُّبل إلى استيعابه، إلى حين بلورة نواظم للفضاء الرقمي وتأسيس عقد اجتماعي حوله. أما القلق والتوجس من الهشاشة والانكشاف الإعلامي، والسعي إلى الرقابة والسيطرة على الفضاء الرقمي، فلن يعكس سوى قلة ثقة بالنفس لدى الفنان، وإحساس بعدم الأمان، من دون أن يفلح حقيقةً في منع حملة الجوالات من استلالها ثم تسليطها عليه تحت كل ظرف، وعند كل مناسبة، في غفلة منه ومن دون استئذانه.

أما نزعة الإشباع الطوعي للمحتوى على الإنترنت، فيمكن ترشيدها إن أراد الفنان ذلك. إذ له يعود القرار من الناحية النظرية، وبوسعه التحقق دوماً من جودة المنتج وجدواه قبل الضغط على زرّ التحميل والمشاركة. عملياً، قد لا يكون الأمر بتلك السهولة. فالنموذج التجاري الذي تقوم عليه منصات السوشيال ميديا، قد صُمم أصلاً ليولد ردوداً شعورية آنية.
كذلك زُوّد بآليات سيكولوجية، مهمتها بالأساس تحريض أنا المُستخدم المستمر على التفاعل عبر "صناعة المحتوى"، بغضّ النظر عن قيمته الفكرية والروحية.

هنا، فإنّ للمَنَعة النفسية، والثقة بالذات الإبداعية، دوراً بارزاً في تنظيم العلاقة مع المسرح الرقمي. كذلك فإن الإيمان الثابت بأن للفن ضرورة أعمق وغاية أبعد من مجرّد تأمين الحضور واستهداف الجمهور واستجداء المتابعة أو حتى جني الأموال، يساهم في تمكين الإرادة بوجه إغراءات النشر، وبالتالي تعزيز القدرة على التحكم بماهية وقدر ما يُنشَر.

من جهة مقابلة، ففي ضوء القفزة التكنولوجية الراهنة، التي جعلت الذكاء الاصطناعي يصنع موسيقى تبلغ حد الكمال لناحية الدقة والتنفيذ، أو التي زوّدت الإنتاج الموسيقي البشري بعدّة أدوات لتحسينه وتلميعه، أخذ بواسطتها يقترب من مديات فوق بشرية، يبدو التاريخ المُفرط اليوم كما لو أنه يُساهم بمنحٍ فرصة لأنسنة الإبداع من جديد.

فالمشاهدون أو المستمعون، في مسعاهم لتوثيق اللحظة الإبداعية بدلاً من عيشها، والشروع بالتقاط الحدث بدلاً من الاستغراق به، إنما ينقلون، من دون وعي، فناً أكثر عفوية وتلقائية، يُعيد للزلّة البشرية مكانتها. كذلك كانت عليه الحال قبل الصناعة الفنية مع بداية عصر تسجيل الإسطوانات الموسيقية وإرساء معايير، ظلت ترتقي بارتقاء التكنولوجيا وتُحرّض المهارة البشرية على محاكاة ذلك الارتقاء.

إذاً، لم لا؟ فليكن الإبداع  شائباً، إن كان صادقاً، ولتتخلّله الهفوات والزلات، إن تضمّنته فكرة أو رسالة، ولم تكن الغاية منه فقط إشباع الأنا الرقمية. عندها، فليصور من رغب أن يصور، وليسجّل من يشاء.

المساهمون