"الله كبير" وفيروز... أغنية تُطلّ مساءً من الشرفة

"الله كبير" وفيروز... أغنية تُطلّ مساءً من الشرفة

21 نوفمبر 2021
تحية إلى السيدة فيروز في عيد ميلادها السادس والثمانين (حسن مروّة / فرانس برس)
+ الخط -

سُبحةٌ من اثنتي عشرة نغمة، تُحركها ريشة على أوتار غيتار كهربائي... لا تبحث عن القرار، بل عن كل ما حوله. سُلّم مُنفرجٌ حائرٌ بين عتبة سابعة وتاسعة. حيرةٌ تتناهى كصدى لدمدمة مسائية، ربما جذبت كاتب الألحان من أذنيه نحو مفاتيح آلة البيانو. علّها تقود إلى أغنية جديدة، أو تؤول إلى لا شيء سوى إلهاء الأصابع وصرف الوقت، فيما العقل غائبٌ يختبر فكرة، أو المخيلة غارقة تستدعي صورة وتستولد أخرى.

من خلال انحلال بعيد باتجاه العتبة الثالثة، تدخل آلة الفلوت لتُعزز بعض الظن حول هوية السُّلم الكبير، من دون كشفها. هكذا، تُرسم الملامح الأُولى لواحدة من أفضل الأغاني وأعذبها، التي لحنها زياد الرحباني للسيدة فيروز؛ "الله كبير"، ثالثة ألبوم سنة 2010، وهو الإصدار الثامن والتسعون في مشوار السيدة الفني، عُنوِن باسم أغنيته المُفردة "إيه فيه أمل"؛ إذ ظلّ يتصدر المبيعات شهوراً بعد توزيعه حول منطقة الشرق الأوسط والعالم.

بدعوة من سلاسل أنغام تُطرَق إيقاعياً ودفعة واحدة على البيانو، مُذكّرةً بتاسعة السلم، يُطل صوت فيروز هادئاً من على النغمة الثالثة، موائماً الأجواء السردية التي تُعيد تدويرها سُبحة الغيتار الكهربائي، مُعاتباً المُحب على النكث بكل وعود الحب، مُعيداً إرثاً رحبانياً قد بدأ مع زياد، في تبني لغة حداثية في كتابة الأغنية الفيروزية، منذ سبعينيات القرن الماضي، تجامع الشاعرية بالواقعية. تبتعد عن ملحمية الخطابية الشعرية، وتعتمد مشهدية الحوارية السينمائية. كما لو أن العتاب يدور حول طاولة في غرفة مطبخ صغير، أو على شرفة في المساء، تُطل على حارة تزوّقها أضواء الشارع، وتنعكس على برك الماء فيها إنارات الدكاكين.

عند "ما صار شي كتير"، وعلى جسر من جاز يُشيّده الكونتراباص، تلج الأغنية كورساً سحرياً يُباغت الأذن بتخت شرقي من نقرِ رق وضربِ عود، وعشقٍ رحباني مُتصل لآلة البزق، التي لطالما مزجت ألوانها البحر بالجبل، والقرية المطلة على الأفق بالمدينة الساحلية المفتوحة على العالم. إلا أن للتخت الشرقي، على مدى كورس الأغنية، الذي أُريدَ له أن يكون آلياً، رافعةً غير اعتيادية عربياً، ألا وهي آلة الترومبيت. تُعزف على عتبة منخفضة، تكاد تُسمع هورناً أو ترومبوناً، وتُعيد توزيع الآلات الشرقية في الأغنية إلى ما يقع ضمن مسرح الجاز.

أما في الخلفية، فتلمح الأذن سُحب وتريات وُزّعت برُشد وذوق يندر مثيلهما في الأغنية العربية الحديثة. تعلو في تجلٍّ مُطّرد من بين التداول المستمر لسُبحة الغيتار، ممهدة عودة السيدة في المقطع الثاني، مرافقةً بُخطى مفاتيح البيانو. فيما تومض خلال الغناء عناصر الأغنية الآلية الرئيسية، من غيتار وترومبيت، تُزيّن فراغ المشهد من دون الانزلاق نحو إشباعه. قُبيل عودة الكورس، تُفرَد مساحات أوسع لحضور الوتريات، وعلى علو مرتفع، لتزيد من الكثافة الدرامية للأغنية. الاقتصاد في الموارد وحُسن التصميم يجعل من "الله كبير" سلسة مفاجآت سمعية صغيرة، صدمات شعورية رقيقة، تتقاطر كقُبل صباحية، على عُنق عشيق.

المفاجأة التالية في الكورس التالي هي آلة الأورغ الكهربائي (السينثسايزر)، التي تقوم بارتجالية ذات طابع سردي، كأنها تروي حكاية الحب على شكل استرجاع تسجيلي للأحداث. تجري عملية تسخين نسبي من طريق دعوة الترومبيت للمشاركة بارتجالية مُقابلة، تؤازرها آلة ساكسوفون. بينما جوقة من أصوات الرجال المنخفضة تردد "الله كبير"، تعادل من مستوى حدّة ارتفاع الوتريات. وفيما تحتل فيروز بحنجرتها النسائية الرخيمة بُقعة ناعمة، أو قطباً مركزياً، جاذباً للألوان الصوتية المختلفة؛ صيغة توزيعية صارت علامة فنية للمؤسسة الرحبانية بجيليها المتعاقبين، في تعاطيها إزاء خامة فيروز الفريدة.

تبقى الخاتمة مُشرعة أمام احتمالات العيش غير المحدودة

تدور عجلة الارتجالات وتدور. حتى إن فيروز نفسها تُعيد أنغام الكورس، كأن شخصها واحدٌ من الآلات الموسيقية المتعددة. عناقيد نغمات تنفرط على مفاتيح البيانو، تتدحرج هنا وهناك، ستتباطأ العجلة إلى أن تتوقف عن الدوران عند العتبة السادسة، مُلتزمةً طابع الختام على اللااستقرار، التي كثيراً ما يعتمدها مؤلفو وعازفو الجاز في إنهاء مقطوعاتهم. علاوة على تقاطع هكذا إجراء مع طبيعة مقامات شرقية مُميزة، كالهزام والكرد، تتخذ من صفة القرار القلق هوية لها.

يبقى أهم ما يُميّز أغنية "الله كبير"، ليس الشكل والبنية أو التركيب، وسائر المواد الداخلة فيه، وذلك على براعته وبداعته وبساطته، وإنما هو القطع الرحباني الجريء مع الصلة التي تبدو أزلية للثقافة العربية، التي تأصر الموسيقى بالحزن. وتحصر التعبير عن مشاعر الفراق والخيبة بالأدوات الموسيقية التقليدية، والتي عادة ما تدور بدورها ضمن مجال الموسيقى الشرقية، في فلك المقامات المُتسقة مع السلم المعدل الصغير، كالنهاوند والحجاز والصبا.

هذا التناقض الوديع بين موضوع الأغنية، ونبرتها الموسيقية، الذي يتولد عن طابعها السلمي المنفرج، لا يجعل من خيبة الحب نهايةً، بل بداية، قد تكون بحبٍ جديد أو حياةٍ جديدة. من جهة أخرى، عدم الإجهار بقرار السلم والحوم القلق حول العتبة الثالثة والسابعة، والتاسعة بشكل أقل، لا يُحيل الأغنية إلى بهجة خالصة، بل يُبقي على الخاتمة مُشرعة أمام احتمالات العيش غير المحدودة، وغير معلومة النتائج.

يبقى أهم ما يميز الأغنية القطع الرحباني الجريء مع الصلة التي تبدو أزلية للثقافة العربية

الميلانكوليا، كما تثبت أغنية فيروز "الله كبير" للأذن العربية، ليست بالضرورة الطقس الوحيد للغناء الشاعري. وذلك تسليماً، بأن للموسيقى بصورة شاملة عُمقاً حزيناً مهما عمّ ظاهرها الفرح؛ إذ يمكن الموسيقى أن تُمثّل خلاصاً، ولو روحياً على الأقل، من الألم والعذاب، وخروجاً آمناً من عُنق الكآبة، نحو نظرة أكثر تصالحيةً إزاء العالم، وأشد تفاؤلاً بما يوفره لنا من فرص للازدهار وطاقة للمكابرة على مشقة الاستمرار. فـ "الله كبير"، ضمن هذا السياق، وفي ضوء موسيقى الأغنية، لا تعني مجرد الاستكبار بالله على من نقض العهد ونكث بالوعد، بل الأمل بالله، بغية الاستمرار في الحياة، من أجل الحياة لذاتها، وما تقدمه للإنسان في كلّ يوم، عند كل خفقة قلب، ودقة ساعة.

المساهمون