موسيقى العداء الطبقي... ابتسامة كاذبة في وجوه أولئك اللصوص

موسيقى العداء الطبقي... ابتسامة كاذبة في وجوه أولئك اللصوص

26 يونيو 2023
يتحدث كيندريك لامار عن الفقر مهاجماً العنصرية والتمييز الاجتماعي (غاري ميلر / Getty)
+ الخط -

ليست عبارة Eat The Rich (كلوا الأثرياء) عنواناً لواحدة من أشهر أغنيات فرقة Aerosmith فحسب، بل هي شعار سياسي استُعير للتعبير عن الصراع الطبقي ومناهضة الرأسمالية، وعنوان لموجة ثقافية جديدة اكتسحت عالم الموسيقى المعاصرة، تعبيراً عن توق جمعي لإحقاق العدالة للطبقة العاملة والوسطى، عقب ما مرّ فيه العالم من أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية، غذّت الهوة الموجودة بين الطبقات الثرية، وتلك الأقل حظاً داخل المجتمع ذاته، وعمقت العلاقات غير المتكافئة أصلاً بين دول الشمال والجنوب أيضاً.
اقتُبس عنوان ذلك التوجه الفني من مقولة شهيرة، نُسبت إلى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "عندما لا يجد الناس ما يأكلونه، فإنهم سيأكلون الأغنياء". وميزت نوعاً محدداً من الأعمال الفنية التي تتسم بالوعي السياسي والطبقي، تحاكي الواقع المتأزم، وتنتقد جوهر النظام الرأسمالي وعجزه عن توفير فرص متساوية للجميع.
لطالما أضاءت الموسيقى على الصراعات الطبقية الممتدة عبر التاريخ، وكانت منذ نشأتها أداة في يد الطبقة العاملة للدفاع عن نفسها ضد أنواع الاستغلال المختلفة؛ طبيعة ميزت التعبير الفني حتى يومنا هذا، إذ لا يستخدم الفنانون المعاصرون الموسيقى للتعبير عن أنفسهم فقط، بل سعياً للتحرر وردّ الظلم ووسيلة للتنفيس عن الغضب المتراكم منذ أجيال عديدة.
ارتبطت الموسيقى بالفقر وبالطبقات المسحوقة ارتباطاً وفياً، حتى إن بعض الأنواع الموسيقية، مثل الراب والهيب هوب، حافظت على جذورها المستمدة من التقاليد الشفوية الأفريقية، وأغنيات العمل والأناشيد التي ظهرت خلال مرحلة العبودية. 
ومع أن الدعوات إلى فصل السياسة عن الموسيقى، كانت كثيرة ومتنوعة في العقود الأخيرة، وكان بعضها جذاباً بالفعل في سعيه لتقويض الروابط بين البنى الاجتماعية والفنية، إلا أن العلاقة بين هاتين الاثنتين لم تتوقف يوماً، فظل الغناء يتحول إلى امتداد للخطاب سياسي ووسيلة للاحتجاج المسموع على نطاق واسع.


توجه الموسيقى "السياسية"، إن وجدت أخرى غير سياسية، أصابع الاتهام وإيماءات الكره والعداء إلى أغنياء المجتمع وسادته وحكوماته، وترصد المعاناة الفردية لعدد لا يحصى من الفنانين الذين ولدوا في الأحياء الفقيرة، وواجهوا تداعيات الفقر من تعاطي المخدرات وعنف العصابات، إلى نقص التعليم والسجن، وكيف نجح العديد منهم في إنشاء مهن موسيقية مزدهرة، وتحويل أنفسهم إلى رواد أعمال ناجحين، يتباهون عمداً بقدرتهم على مراكمة الثروة وبحترتها.
الأمثلة على الموسيقى الملتزمة بالتعبير عن الصراع الطبقي، وعن استياء الطبقات الاجتماعية المحرومة حقوقها عديدة، نجدها في أغاني كل من كيندريك لامار، وفرقة The Smile، وجيه. كول، وكيلر مايك، وكيت تيمبيست وبروس سبيرنغستين، وغيرهم ممن عبّر عن احتجاجه بأغانٍ جدية ومعاصرة، تتنوع بين الروك والميتال والبانك والراب والهيب هوب، تطوق مشكلة الفقر وتنتقد ممارسات رأس المال عبر العقود الماضية من دون مواربة أو محاباة.
في ألبومه الأحدث المشحون سياسياً، Mr. Morale & the Big Steppers، يتحدث كيندريك لامار عن الفقر عبر تراكات تهاجم في معظمها العنصرية والتمييز الاجتماعي والاقتصادي والقوالب النمطية وعنف السلاح والقمع البنيوي، محققاً توازناً قلّ مثيله بين السرد الثقيل والجاذبية التجارية، وبنفَس سياسي يساري يميل إلى إيجاد أسباب الفقر الجذرية، بدلاً من تبني وجهة النظر المحافظة التي تعزو الفقر إلى سمات فردية أو إلى نقص في الجهد والمهارة والسعي المنظم للثراء. يُعَدّ الألبوم مثالاً واضحاً على التقاطع بين الشخصي والسياسي في الموسيقى المعاصرة، خصوصاً أنه أُنجز وسط مناخ الوباء المضطرب وعلى أعقاب حركة MeToo# وما شهده العالم، وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية، من احتجاجات ضد وحشية الشرطة والدخل غير المتكافئ والبطالة. إحدى أهم أغنيات الألبوم N95، تنقل ذلك الواقع المعيش بوضوح جليّ: "العالم في حالة من الذعر، النساء تقطعت بهنّ السبل والرجال يهربون، الأنبياء مهجورون، القانون يستفيد، السوق ينهار، والصناعة تريدنا أن ننام في صناديق". أما أغنية United in Grief من ذات الألبوم، فكما يشي عنوانها، تتحدث عن الحزن العميق النابع عن اللاعدالة الاجتماعية في أميركا، بنغمة قد لا تجعلنا نرقص، لكنها بالتأكيد ستدفعنا إلى التفكير العميق، وتلك ميزة أخرى تضاف إلى ما يحمله ألبوم لامار من تجديد على الصعيدين الفني والجمالي.


في السياق نفسه، يعالج ألبوم Grief (صدر في 2022) للمغني وعازف البيانو والناشط الحقوقي سامورا بيندرهيوز، مشكلة الفقر واللاعدالة، مستنداً إلى مائة مقابلة أجراها المغني مع أشخاص ملوني البشرة كانوا مسجونين، أو تعرضوا للعنف المنظم والإفقار المنهجي في فترة ما خلال حياتهم. في الألبوم تعاون وانسجام قليلاً ما نشهد مثيله بين نمط التسجيل الوثائقي والتعبير الموسيقي، وتأكيد لقدرة الأخيرة على التورط في قضايا السياسة وتقاطعاتها مع الصراعات العرقية والجنسية والطبقية. تجربة مشابهة لما أنتجه الصحافي الأسترالي مات وارد في ألبومه "لماذا أحتج"، جامعاً عبره هتافات وصيحات أطلقت في مسيرات رفض واحتجاجات في شتى أنحاء العالم. 
أما فرقة Unsanitary Napkin النسوية الأناركية، فتقدم ألبوم All Billionaires Are Bastards (جميع المليارديرية أوغاد)، على هيئة نقد صارخ ومتوحش للظلم واللامساواة من وجهة نظر نسوية بحتة، واصفين أغانيهن بأنها "قيء متفجر من شدة الإحباط". فيما أُرفق ألبوم الاستوديو الأخير لفرقة The Smile البريطانية A Light For Attracting Attention ببيان يشرح معنى "الابتسامة" المقصودة، وهي إشارة إلى قصيدة الشاعر الإنكليزي تيد هيوز: "ليست تلك التي في الضحكة، بل أقرب إلى ابتسامة الرجل الذي يكذب عليك كل يوم". يحتوي الألبوم في مجمله على كثير من الانتقادات اللاذعة الموجهة إلى أولئك الذين يسيئون استخدام السلطة، ويسببون إهدار حيوات الناس وتركها معلقة إلى أجل غير مسمى بنغمات الروك التقدمي والآفروبيت، وغيرهما من الأنماط الموسيقية التي تحاكي في أسلوبها وتوزيعها أغاني فرقة راديو هيد.

كذلك، قدم المغنيان الأميركيان ميفس ستيبلز وليفون هيلم نسختين جديدتين من أغنية كورتيس مايفيلد This Is My Country، ورائعة نينا سيمون I Wish I Knew How It Would Feel to Be Free. تشير عودة الموسيقيين لهاتين الأغنيتين الكلاسيكيتين اللتين تخاطبان الأميركيين الأفارقة في أوقات حالكة من تاريخ نضالهم، إلى تزعزع ثقتهما بما حققه العالم الجديد على صعيدي الحقوق المدنية والنضال من أجل المساواة. صحيح أن العبودية، بشكلها القديم، قد ولّت، إلا أن نسبة كبيرة من سكان الأرض ما زالت تخضع لشتى أنواع الاستغلال والظلم، خصوصاً الأقليات والفئات المهمشة، وهي مخاوف تعبّر عنها أغنيات دونالد غلوفر الذي يتفحص في أعماله مفاهيم ومفردات العنصرية الحديثة، وغيرها من الموضوعات التي تميز موسيقى الأفروسوريالية. 


تتخذ فرقة Yard Act البريطانية نهجاً تهكمياً عبر ألبوم الروك Overload (صدر في 2022) الذي يصف الأغنياء كطبقة اجتماعية سطحية، هزيلة أخلاقياً، ولا تبالي بمن حولها: "من الواضح أنني أصبحت غنياً، من فضلكم علموني كيف أغدو متواضعاً الآن"، إضافة إلى تركيز الألبوم على القلق البشري الذي عمّ العالم في مرحلة ما بعد كورونا، وأعاد تعريف ما كان يبدو من المسلمات قبل الوباء، كمفاهيم الحميمية والواجب الاجتماعي، فضلاً عن الفوارق الطبقية التي كرسها الفيروس، ولا تنفك تظهر يوماً بعد يوم كآثار طويلة الأمد، كتقليص دخل الطبقات الدنيا وتراجع الجهود العالمية لمحاربة الفقر المدقع، فضلاً عن خلق مجتمع متكيف مع قواعد التباعد الاجتماعي الجديدة، ومع هاجس المرض والفقدان المستمرين. يتحدث الألبوم أيضاً عن ضياع "الخصم" الذي بات ضبابياً أكثر من أي وقت مضى في عالم اليوم، وقد انساب في أشكال وقوالب متعددة، تجعل من مقاومته أمراً شبه مستحيل وإعلان حرب ضمنية مع كل ما هو موجود.
توضح لنا أعمال الفنانين المعاصرة، خصوصاً المستقلة منها، أن الاحتجاج عبر الموسيقى سيظل واحداً من أهم أسباب صناعتها، وشكلاً من أشكال المقاومة اليومية لممارسات رأس المال المجحفة بحق ملايين من البشر، ووسيلة لحفظ التاريخ المعاصر للطبقة العاملة ومعاناتها المتجددة في كل عصر.

المساهمون