ما قبل الأندرغراوند... سيرة أخرى للغناء المصري البديل

ما قبل الأندرغراوند... سيرة أخرى للغناء المصري البديل

12 مايو 2023
ساهم هاني شنودة في تأسيس عدد من تلك الفرق (فيسبوك)
+ الخط -

شهد عقد الخمسينيات ظهور أولى الفرق الغنائية المصرية. ومن يومها، لم ينقطع هذا الشكل الغنائي عن الحضور في الساحة الفنية، وإن انحسر في فترات ليعاود الظهور. وبينما كان السبيل ممهداً لبعض الفرق، واجه بعضها الآخر عقبات في طريقه، لكن أغلبها استطاع تحقيق نجاح شجّع الآخرين على تكرار التجربة.

هنا، نتتبع عدداً من التجارب الأشهر في تلك الناحية. جاءت البداية مع فرقة الثلاثي المرح التي حظت بشهرة واسعة ليس في مصر وحدها، إنما امتد حضورها إلى البلدان العربية، لتقيم الفرقة فيها كثيراً من الحفلات. واستتبع هذا الذيوع تكرار الأمر مع آخرين، فتشكلت فرقة ثلاثي أضواء المسرح، ثم كانت هناك فرق مثل "لي بيتي تشا" و"ذا بلاك كوتس" التي تكونت على شاكلة مثيلاتها الغربية. ظهرت بعد ذلك فرق مثل "المصريين" و"الأصدقاء" و"تراحيل"، ممثلة توجهات فنية مختلفة، إلا أنها جاءت على تباينها ملهمة لكثيرين، وسبقت بالطبع ظهور ما يعرف اليوم بفرق الأندرغراوند التي ربما لا توافق سابقاتها في سمات عديدة، لكن أغلب الفرق، قديماً وحديثاً، اشترك في الشخصية الفنية المستقلة.

الثلاثي المرح

من برنامج للمواهب الفنية في الإذاعة المصرية في الخمسينيات جاءت انطلاقة "الثلاثي المرح"، حين تعرف عليهن المؤلف الموسيقي والملحن علي إسماعيل. لفت نظره إليهن أصواتهن العذبة وخفة ظل ميزت أغانيهن وبساطة اتسم بها أداؤهن، من هنا كان الاسم الذي أطلقه عليهن "الثلاثي المرح".
تكونت الفرقة من ثلاث فتيات، هن: صفاء لطفي وسناء الباروني ووفاء مصطفى، خريجات معهد الموسيقى العربية. وفي حديقة المعهد، قدم الثنائي سناء وصفاء العديد من الحفلات، لتلتحق بهن وفاء.
مع علي إسماعيل، قدمن لوناً غنائياً جديداً، زاد من تألق أصواتهن، وتعاونت الفرقة مع عدد من كبار الشعراء وقتها، مثل مأمون الشناوي، وصلاح جاهين، ومرسي جميل عزيز، ونبيلة قنديل، وعبد الرحيم منصور، وعبد الرحمن الأبنودي. ولحن للثلاثي بخلاف إسماعيل: بليغ حمدي، ومحمد سلطان، ومنير مراد، وسيد مكاوي، ومحمود الشريف، وأحمد صدقي، ومحمد الموجي.

هذه الكوكبة كفلت لأغاني الثلاثي الخفيفة والمرحة أن تهيمن شيئاً فشيئاً على مناسبات المصريين المختلفة، فكانت أغان مثل: "عرايس متنقية" و"العتبة جزاز" ومانتاش خيالي يا وله" و"تورتة مدورة" و"يا عروستنا يا لوز مقشر" حاضرة في الأفراح والمناسبات السعيدة، وما زالت أغان مثل: "أهو جه يا ولاد" و"افرحوا يا بنات" و"وحوي يا وحوي" و"سبحة رمضان" تذاع حتى اليوم في شهر رمضان.

أصبحت فقرات الثلاثي جزءاً رئيسياً في برنامج أي حفل. ومع دخول الستينيات، بلغت الفرقة ذروة شهرتها التي امتدت إلى البلدان العربية، فكان للثلاثي جولات خارج مصر، وغنين باللهجات العراقية والليبية والكويتية، كما شاركن بالغناء والتمثيل في عدد من الأفلام، منها: "يوم من عمري"، و"شفيقة القبطية"، و"صغيرة على الحب"، و"الخرساء"، و"الحلوة عزيزة"، و"غرام في الكرنك"، و"الراهبة".
حين ظهرت الفرقة في الخمسينيات، كانت الأولى من نوعها، ليغري نجاح كبير حققته على ظهور تجارب أخرى شبيهة، ومع نهاية الستينيات توقف نشاط "الثلاثي المرح" إثر اعتزال أعضاء الفريق.

ثلاثي أضواء المسرح

في النصف الثاني من الستينيات، ظهرت فرقة ثلاثي أضواء المسرح، جاءت البداية من إحدى فقرات "برنامج مع الناس" في التلفزيون المصري، اشترك فيها جورج سيدهم وسمير غانم، وكانا ما زالا طالبين في الجامعة، ثم انضم إليهم ثالث هو عادل نصيف. لفتت اسكتشاتهم الغنائية انتباه مخرج برنامج أضواء المسرح، ليطلب منهم تقديم اسكتشات شبيهة في برنامجه، لكن نصيف انفصل عنهما، فانضم إليهما الضيف أحمد.

تبع التخرج من الجامعة تأسيس الفرقة الغنائية الاستعراضية لتُعرف بـ "ثلاثي أضواء المسرح" (1967)، بعدما استعاروا اسم البرنامج، ومن خلالها قدموا العديد من الاسكتشات الناجحة، سواء في التلفزيون أو في الحفلات الخاصة، كما شاركوا في العديد من الأفلام، منها: "فرقة المرح"، و"30 يوم في السجن"، و"منتهى الفرح"، و"القاهرة في الليل"، و"شنطة حمزة"، و"المجانين الثلاثة"، و"شباب مجنون جداً"، و"الحرامي"، و"أفراح"، و"واحد في المليون"، و"حلوة وشقية".

وقدمت الفرقة أيضاً خلال تلك الفترة مسرحيات عدة، مثل: "فندق الأشغال الشاقة"، و"حواديت"، و"طبيخ الملائكة"، و"موسيقى في الحي الشرقي"، و"كل واحد وله عفريت"، و"الرجل اللي جوز مراته"، و"فندق الثلاث ورقات".

ونقرأ في سجل الثلاثي كذلك أنهم أول من قدموا فوازير رمضان بشكل استعراضي غنائي، حيث بدأوا تقديمها في عام 1967، لتتوقف برحيل الضيف أحمد عام 1970، ومعها آخر عروضهم المسرحية "الرجل اللي جوز مراته".

"ذا بلاك كوتس" و"القطط الصغيرة"

في الستينيات، ظهرت أيضاً فرقة "ذا بلاك كوتس". أسسها إسماعيل الحكيم نجل الأديب توفيق الحكيم عام 1966. وكان من بين أعضائها أسماء مثل: يحيى الشماع، وشريف ظاظا، ومدحت حنفي، ومجدي عزيز، وأشرف سلماوي، ومجدي حسين، ومحمد هلال، وطلعت زين. وبخلاف "الثلاثي المرح" و"ثلاثي أضواء المسرح" لم تلق الفرقة ترحيباً واسعاً بسبب نوعية الموسيقى واتهامات لاحقتها بالتأثير سلباً على الشباب من خلال أجواء حفلاتها.
مع ذلك، ذاع صيت"ذا بلاك كوتس" في أوساط الشباب، خاصة بعد التشديد على محتوى الأسطوانات الغنائية الأجنبية مع منتصف الستينيات، واستمرت الفرقة في تقديم عروضها حتى عام 1978، لتتوقف بعدها إثر رحيل مؤسسها إسماعيل الحكيم.

في تلك الفترة، تأسست كذلك فرقة القطط الصغيرة (Les Petits Chats) على يد وجدي فرنسيس وعزت أبو عوف وعمر خيرت، بجانب صادق قليني وتيمور كوتة وماهر مرقص وهيثم شلاح، لينضم إليهم في مراحل لاحقة، أسماء مثل: هاني شنودة ولوكس وعمر خورشيد وطلعت زين وطارق مدكور وأشرف محروس. نافست الـ"قطط الصغيرة" فرقة "ذا بلاك كوتس". بعد وقت قصير من انطلاقها، ورغم أن الفرقة الجديدة لم تقدم أغاني خاصة بها، ولم تغنّ بالعربية كذلك، لكنها لاقت نجاحا واسعا.

"المصريين" و"الأصدقاء" و"تراحيل"

وفق رواية هاني شنودة، فإن من أوحى له بتأسيس فرقة "المصريين" هو نجيب محفوظ، حين التقى الأديب الكبير في حفلة كان شنودة يعزف بها مع أصدقاء له أغاني غربية، ليطلب منهم محفوظ أن يقدموا هذه النوعية لكن باللغة العربية.

انتمى هاني شنودة إلى وسط متمرد من الموسيقيين، خرجت منه فرق مثل "القطط الصغيرة"، و"تشا" التي أسسها عزت أبو عوف بعد خروجه من الأولى، و"إيه وان" التي كونها شنودة بعد انفصاله أيضاً عن "القطط الصغيرة". كان هذا الوسط من الشباب يرفض صورة الأغنية التقليدية بمقدماتها الطويلة وإعاداتها وزياداتها، إضافة إلى خلوها من البناء الهارموني.

هذه الرؤية دفعت تلك الأسماء أن تبتعد عن الأغنية التقليدية، واقتصر نشاطها على تقديم الموسيقى والأغاني الغربية من خلال فرق كونتها. لكن عبارة محفوظ حرضت شنودة على تعديل مساره درجات ليؤسس فرقة "المصريين" التي ضمت كلا من إيمان يونس ومنى عزيز وتحسين يلمظ وهاني الأزهري وممدوح قاسم وعمر فتحي. وفي سنة التأسيس، صدر الألبوم الأول للفرقة "بحبك لا" عام 1977، وأهداهم صلاح جاهين أنجح أغاني الألبوم وأكثرها شهرة، "ما تحسبوش يا بنات" و"الشوارع حواديت"، كما قدم لهم كثيراً من الأغاني الناجحة بعد ذلك.

إلى جانب جاهين، برز مع الألبوم الأول لـ"الأصدقاء" شعراء مثل عنتر هلال وعصام عبد الله ومرسي السيد، إضافة إلى عمر بطيشة. واستطاعت الفرقة بما قدمته من روح جديدة عبرت عنها الكلمات والموسيقى أن تجتذب قطاعات واسعة.

توالت نجاحات "المصريين" مع الألبومات التالية: "حرية" (1979) و"بنات كتير" (1980) و"ابدأ من جديد" (1981) و"ماشية السنيورة" (1985) و"حظ العدالة" (1988). اعتزلت خلال ذلك مغنية الفرقة سناء يونس لتحل محلها راندا السبكي ثم منى عزيز، لكن رحيل كل من الأب الروحي للفرقة، صلاح جاهين، وتحسين يلمظ المغني وعازف الغيتار، أدى إلى توقف نشاط الفرقة تماما في عام 1988.

شهدت الثمانينيات أيضا ظهور فرقة ناجحة أخرى، لكن خلافا لـ"المصريين"، بل لغالبية الفرق السابقة عليها (ذات الطابع الغربي)، جاءت أغاني "الأصدقاء" مطبوعة بطابع شرقي واضح، يعود إلى مؤسسها عمار الشريعي المنتمي إلى المدرسة الكلاسيكية المصرية.

من معهد الموسيقى العربية، اختار الشريعي أعضاء فرقته، وهم: علاء عبد الخالق وحنان ومنى عبد الغني، أما أبرز الشعراء الذين تعاونوا مع "الأصدقاء" فكان في مقدمتهم سيد حجاب وعمر بطيشة.

أطلقت الفرقة خمسة ألبومات غنائية، هي: "حنغني"، و"قول يا باسط"، و"مطلوب موظف"، و"خارج المنافسة"، و"الحدود". عكست جميعها الطابع الشرقي. مع ذلك، قدمت صياغة مختلفة للتجديد واكبت بها السوق الغنائي، ومن أشهر أغانيها: "الحدود"، و"مع الأيام"، و"كتيبة الإعدام"، و"حبيبتي بتعلمني أحب الحياة"، و"إلى كل طير مهاجر"، و"ثلاث فرسان". وفي عام 1986، توقفت الفرقة رغم النجاح الكبير بعد اتجاه نجومها إلى الغناء بشكل فردي.

شهد هذا التوقيت بذلك انحسار موجة الفرق بشكل كبير، ليتجه السوق أكثر إلى الغناء الفردي، لكن ذلك لم يردع تجربة أخرى عن الظهور، هي فرقة يحيى غنام المعروفة بـ"تراحيل" (1988) وهو اسم الألبوم الوحيد للفرقة التي اشتهر مؤسسها كواحد من أهم عازفي الباص غيتار في مصر.
نحت أغاني الألبوم منحى مختلفا عن السائد، سواء بالنسبة للكلمات أو الأشكال الموسيقية التي قدمتها الفرقة، لتلقى حفلاتها في الأوبرا إقبالا واسعا لكن مع ذلك لم تستمر طويلاً، ويشير البعض إلى أنها جاءت بداية مبكرة بعض الشيء للفرق التي عُرفت بعد ذلك بالأندرغراوند.

المساهمون