إزّاي يا ترى: صفحة زكريا أحمد الأخيرة

إزّاي يا ترى: صفحة زكريا أحمد الأخيرة

01 ديسمبر 2020
غنت أم كلثوم "هو صحيح الهوى غلاب" 19 مرة (Getty)
+ الخط -

ربما كانت القطيعة الفنية بين أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد لأكثر من 11 عاماً، هي الخسارة الكبرى في مسيرة سيدة الغناء وشيخ الملحنين، لأنها خسارة كان بالإمكان تجنبها، بترك العناد، وإنهاء الخصومة القضائية سريعا. خسرت أم كلثوم عشرة ألحان، أو ربما عشرين لحناً، للرجل القادر على تفجير الطرب من بين الأحرف، وإغراق المستمعين في بحار من السلطنة التي لا تتناهى.

وخسر زكريا صوت سيدة مطربات الشرق، التي تمنح اللحن روحاً ورواجاً لا يستطيعه غيرها. فلما حانت الفرصة، وانفرجت الأزمة، قرر زكريا أن تكون عودته لصوت أم كلثوم بلحن يثبت به للجماهير فداحة الخسارة، ويقول به للناس: ها أنا ذا، شيخ الصنعة الذي لا يبارى، ولا يملأ مكانه أحد. وكانت الستة عقود التي مرت على إنجاز هذا العمل كافية لإثبات أن الشيخ زكريا أهدى إلى العرب لحناً باقياً خالداً تردده الجماهير من بغداد إلى الرباط، فلا يزداد إلا بريقاً.

بعد ترقب، حان الموعد. إنه مساء الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 1960، حيث احتشد جمهور متلهفاً في مسرح سينما أوبرا، وكانت الصحف قد أعلنت عن إطلاق أم كلثوم أغنيتين جديدتين، هما "أنت فين والحب فين" من ألحان بليغ حمدي، و"هو صحيح الهوى غلّاب" للشيخ زكريا. بدأ مذيع الحفل جلال معوض تمهيده للوصلة الأولى، وكانت أغنية "هجرتك" لرامي والسنباطي. استغرق غناء أم كلثوم لها أكثر من ساعة. ثم قدمت أم كلثوم أغنية "حب إيه"، ونالت تجاوبا جماهيريا كبيرا، وأيضا استغرق غناؤها أكثر من ساعة. وبالطبع أدرك الحضور في المسرح، والملايين حول أجهزة الراديو، أن السيدة أخرت لحن زكريا لتقدمه في الوصلة الثالثة وتختم به الحفل.

كان وقع الأغنية مدويا، وبالرغم من الفرحة الكبيرة باللحن، وبتجدد اللقاء بين أم كلثوم وزكريا، إلا أن الحفل ذكر الناس بسنوات القطيعة، وأشعرهم بمدى ضخامة الخسارة، وقد حكى بعض من حضروا الليلة، أن بعض الجماهير كانت تتهامس بشتم أم كلثوم، ويرون أنها حرمتهم من رجل لا يجوز بنظرهم تجاهله أو تجاهل فنه وعبقريته التلحينية الفريدة. ثم تجدد الغضب ومشاعر الخسارة مرة أخرى، بعد نحو شهرين ونصف، حين مات زكريا أحمد في 14 فبراير/شباط 1961، وتأكد الناس أن لحن العودة كان أيضاً لحن الختام والوداع.. فارتفعت مكانة الأغنية في الوجدان الجماهيري.

كعادة بيرم التونسي، جاءت كلمات الأغنية من الطراز الذي يصفونه بالسهل الممتنع، وهي في شكلها، طقطوقة، مكونة من ثلاثة أغصان، ومذهب يتكرر عقب كل غصن، هو: "ازاي يا ترى.. أهو ده اللي جرى.. وأنا ما اعرفشِ.. ما أعرفش أنا". واتسمت عبارات النص بالرشاقة، وكثرة الجناس، والقوافي الداخلية، كما نجده مثلا في قول بيرم: "وعود وصدود، ويا قلبي آه، الحب وراه، وأندم وأتوب، وعلى المكتوب". وهذه الطريقة في النظم يرتاح لها الشيخ زكريا، الذي عرف بتفننه في التقطيع، والتلاعب بألفاظ الجمل.


الصَبا المطيع
تلحينياً، اختار الشيخ زكريا مقام الصبا للاستهلال وللمذهب المتكرر، وأيضا للغصن الأول. وصيغة الصبا في الأغنية طيعة إلى حد كبير، فيمكن للمطرب أو المستمع أن يأخذها في اتجاه الطرب والسلطنة الفرحة، وأن يغنيها وهو مبتسم يتمايل، أو أن يسير بها في طريق حزن وألم وانتحاب، أو أن يجمع بين الطريقين، ليحقق وصف فيكتور سحاب للحن بأنه "طرب يصل حد الفجيعة". مع مقدمة الغصن الثاني، يتضح مقام القارجغار، ومع الغصن الثالث انتقال ينتهي بالاستقرار على مقام العجم، ومع جملة "نهاري ليل وليلي نهار"، يعود إلى الصبا تمهيداً لاستعادة المذهب وختام الأغنية.

إذن، فاللحن بسيط في تركيبه، ويخلو من أي شكل من أشكال التعقيد، وهذا في ذاته من براهين قدرة الشيخ زكريا الفائقة على استخراج أفانين الطرب من أقل عدد من الحروف الموسيقية، وبأقل قدر من الانتقالات، وهو في معظم أعماله أميل إلى التتالي النغمي منه إلى القفز، لكنه جعل من التتالي وسيلة إضافية للإطراب والإدهاش وشد انتباه المستمعين.

وفي تاريخ الغناء الحديث والمعاصر، تعد الأغنية إحدى أهم ما أنتجته القرائح من مقام الصبا، الذي ينبعث منه فوراً شعور الحزن والأسى، ويكاد كثر يتعاملون معه بحذر، ويتجنبون أن يكون المقام الأساس والمهيمن على اللحن من فرط اتضاح أجواء الكآبة منه.

كان الشيخ زكريا شديد الجرأة في تجربته التلحينية الأخيرة، وقد نجح نجاحا كبيرا مدويا، في تقديم عمل كبير من هذا المقام، يسعد به المستمع ويطرب، ولعل من أدلة هذا النجاح أن الأغنية صارت من القطع الأساسية في مجالس الطرب الكلاسيكي، وأصبح المنشدون الكبار في مصر وسورية يكررونها في محافلهم ولياليهم، مثل كل القطع التراثية النفيسة من الأدوار والموشحات.

وعلى مدار ثماني سنوات، غنت أم كلثوم "هو صحيح الهوى غلاب" 19 مرة، كلها مسجلة ومتاحة، ولا تخلو وصلة منها من التصرف والارتجال، فالأغنية قصيرة، ولحنها مطواع، وكلماتها تنادي على المطرب المتمكن بالتصرف والتفريد، حتى إن أم كلثوم ارتجلت مقطع "يا قلبي آه" في الحفل الأول للأغنية، وهو أمر قليل حد الندرة في الحفلات الأولى لأغنيات السيدة، التي كانت تميل إلى أن يتعرف الجمهور على اللحن ويحفظه قبل أن تمارس هوايتها في التصرف والارتجال.


وصلة المغرب
خارج مصر، كان للأغنية محطات ثلاث، فقد شدت بها أم كلثوم في عاليه بلبنان في سبتمبر/أيلول 1961، كما شدت بها في سينما الأندلس في الكويت في فبراير 1963. وكانت المرة الأخيرة لأداء الأغنية من نصيب الشعب المغربي، وتحديدا على مسرح الملك محمد الخامس في الرباط في 12 مارس/ آذار 1968.

تعد وصلة "هو صحيح" في الرباط من أجمل وصلات الأغنية وأطربها، وربما كانت من أهم وقفات أم كلثوم، في العشرين سنة الأخيرة من رحلتها الفنية الطويلة. ومن أول كلمة في الغناء، تتضح حالة الانتشاء التي تلبست بالسيدة الكبيرة الخبيرة التي اقتربت من السبعين. بدت أم كلثوم مسترسلة، وشجعها التجاوب الجماهيري غير الاعتيادي على تكرار المذهب والغصن الأول عدة مرات. ومع الغصن الثاني، بلغ الانتشاء بالسيدة وجمهورها مبلغاً نادراً، فقدمت أطول تفريد في كل ما وصلنا من تسجيلاتها، إذ مكثت أكثر من 40 دقيقة ترتجل في مقطع "نظرة وكنت أحسبها سلام"، وملأته بالجماليات الغنائية، ومنها الغنة اللذيذة في نون "نظرة"، والقفلات المشيخية في لفظة "سلام" و"أوام".

بلغ الطرب بالجمهور مبلغاً غير مسبوق، فوقفت الجماهير تصفق وتهلل عدة دقائق، في أطول مقاطعة بالتصفيق عرفتها تسجيلات السيدة. بل إن الجمهور ولأول مرة، ظل يردد جماعياً صيغة مشهورة في أعراس المغرب للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هتف الحضور: "صلاة وسلام على رسول الله.. لا جاه إلا سيدنا محمد.. ياللا مع الجاه العالي".. وبلا شك أن هذا نوع غير مسبوق ولا ملحوق من الاحتفاء بمطرب أو مطربة يغني أغنية عاطفية.

كما تعد وصلة "هو صحيح" بالمغرب، الأطول من بين وصلات الأغنية الـ 19، فقد استغرق غناء أم كلثوم لها 74 دقيقة، حشدت فيها السيدة أكبر قدر من خبراتها وتصرفاتها وهي في هذه السن الكبيرة، فاستحقت تلك الوصلة أن تكون الأعظم والأهم بين وصلات الأغنية، وأيضا كانت خير ختام لمحافلها، إذ لم تؤدها أم كلثوم مرة أخرى حتى رحيلها.

إن مرور 60 عاما على إطلاق "هو صحيح الهوى غلاب" وبقاء الأغنية حية حاضرة بين الجماهير، تحظى بإعجاب كل جمهور أم كلثوم على تنوعه واختلافه، يمثل دافعا قويا للبحث الجاد في فن زكريا أحمد، الممتد من عشرينيات القرن إلى أوائل ستينياته، وإلى دراسة أسلوبه الخاص الفريد، والوقوف على معالم قوة شخصيته الفنية، رغم إصراره لآخر لحظة على الاستمساك بطرائق كان كثيرون يظنون أن الزمن قد تجاوزها.. لكن الشيخ، وبلحنه الأخير، أثبت أن طريقته خير وأبقى، وأنه "كل يوم حلاوته تزيد".

المساهمون