لويس أرمسترونغ... جاز في مهب الحرب الباردة

لويس أرمسترونغ... جاز في مهب الحرب الباردة

23 يوليو 2021
لويس أرمسترونغ مع باربرا سترايساند في "هيللو، دوللي" (Getty)
+ الخط -

إلى اليوم، وصورة عازف بوق الترومبيت، المغني ومؤلف موسيقى الجاز الأشهر لويس أرمسترونغ ما تزال واحدة من أبرز أيقونات الثقافة الأميركية الحديثة. نظرته الطفولية وابتسامته البريئة العريضة، ظلّلت أوجه التناقض والتصارع السياسي والاجتماعي والثقافي المحتدم في الولايات المتحدة زمان القرن الماضي التي أسهمت في دفع سيرورة بناء هوية ثقافية أميركية مركزية وأصيلة.

خلافاً لسمة العراقة والتكلّف، التي ميّزت رموز الثقافة الأوروبية منذ القرن السابع عشر، والنخبوية الثقافية، أو ما يُدعى بطليعة "الإنتلجنسيا" التي روج لها النظام الشيوعي بين دول المعسكر الشرقي، فترة الحرب الباردة منتصف القرن العشرين؛ برزت شخصيات أميركية فنية فذّة، كلويس أرمسترونغ، لتؤكد على سمات البساطة الفطرية والنقاء الإبداعي الذي لا يقوم على التأليف، وإنما الارتجال، وليس على الإرث البرجوازي الأكاديمي والمؤسساتي، وإنما على صخب الشارع وضوضاء حاناته ومقاهيه وبيوت الهوى في عتمة أزقّته. كل ذلك بغية مد هوية عصرية في طور البناء بـ "سردية" خاصة. لذا، أهمل الأميركيون جوانب العمق الفكري والوعي الوجداني والاجتماعي والسياسي لدى أيقوناتهم الفنية، وركّزوا على تلك التي تصب في الرواية التي تؤسس للهوية الطهرانية الحديثة.

أرمسترونغ، كمعظم الفنانين غير المنخرطين أصلاً في معترك السياسة، وغير المنتسبين إلى حزبٍ بعينه أو أيديولوجيا بحد ذاتها، ظل يجد من الصعوبة بمكان أن ينأى بنفسه عن ساحاتها الملتهبة ومعاركها المحتدمة، كما كانت عليه الحال في خضم حراك تيار الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، إبان عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

الموسيقيون تاريخياً هم أقل الفنانين رغبة حقيقية في الصدام مع السلطة أو اتخاذ موقفٍ

الموسيقيون تاريخياً هم أقل الفنانين رغبة حقيقية في الصدام مع السلطة، أو اتخاذ موقفٍ، سواء مع، أو ضد طرف من الأطراف المتصارعة والمتساجلة. إذ إنهم ينظرون إلى السياسة واصطفافاتها واستقطاباتها، وعينهم دوماً على الجمهور الواسع العريض؛ أيّ تصريح جليّ صريح، فعلٌ سياسي بارز أو مشاركة جماهيرية في فضاء عام، كالخروج في تظاهرة أو الانضمام إلى اعتصام، سيفقدهم شريحة كبيرة من محبّيهم ومعجبيهم، وسيحرمهم، في حال وجدوا أنفسهم بمواجهة السلطة القابضة بمؤسساتها الإدارية والمالية، من عقود وفرص إنتاجية كانت لتُبقي على أبواب الازدهار والانتشار أمامهم مشرعة.

كيف إذن، وأرمسترونغ بنفسه كاد أن يذهب ضحية تفجير استهدف ما كان يُعرَف بالعروض المُدمجة عرقياً التي تتم بمشاركة موسيقيين من سود وبيض، يعزفون معاً، في مدينة كنوكسفيل عام 1957.

في لهب الأحداث المتسارعة، من اغتيالات طاولت قادة الحراك الأفرو- أميركي، كمالكوم إكس عام 1965، والمواجهات التي أسفرت عن أحداث عنف كالتي عُرفت بالـ "الأحد الدموي" والعنف الممنهج، الذي اتبعته قوات الأمن في قمعها التظاهرات. في غمار كل هذا، كان قراره واضحاً، بأن يعزف عن الانخراط النشاطوي الميداني.

رفض أرمسترونغ تقدم الصفوف الأمامية، خلال سلسلة التظاهرات المطالبة بإحقاق العدالة، في صورة قانون جديد للحقوق المدنية

رفض أرمسترونغ تقدم الصفوف الأمامية، خلال سلسلة المظاهرات المطالبة بإحقاق العدالة، في صورة قانون جديد للحقوق المدنية، يضمن المساواة التامة بين أفراد المجتمع، وينهي مظاهر التمييز العرقي. سبق وأن شرح موقفه الرافض للانخراط بكل صراحة وبساطة وطيبة، من دون نفاق أو ادعاء، حين أجاب: "حياتي هي موسيقاي، إن سرت في إحدى تلك المسيرات، فلن يتورّعوا عن ضربي على فمي، فلا أعود أقدر من بعدها على النفخ في البوق. هم لن يتورّعوا حتى عن ضرب يسوع المسيح، إن كان عليه السلام أسود البشرة، وآثر أن يشارك في التظاهرات".

إلا أن كل ذلك لا يعد بحال من الأحوال انعكاساً لما يشعر به الفنان، ويعتقد في قلبه وعقله وقرارة نفسه؛ هو الإنسان أولاً الذي عايش واختبر كل تجليات العنف وغياب العدالة، بوصفه فرداً من بين أفراد المجموعة العرقية، الدينية أو الإثنية التي يقع عليها الظلم، أو المجتمع في مجمله الذي يعاين مظاهر التفاوت وأوجه الاضطهاد.

نشأ لويس أرمسترونغ في بيئة من الإقصاء أولاً، تقوم على نزع صفة الإنسانية عن كل أسود البشرة، ومن الفقر ثانياً، إذ إنه أمّن عيشه منذ مرحلة مبكرة، من العزف في أزقة نيو أورليانز، لقاء الشحيح من المال. هكذا، كان قد واجه من خلال سيرته الذاتية، وبشكل مباشر، جميع أشكال العنصرية التي ميّزت المجتمع الأميركي، منذ توقف الحرب الأهلية عام 1865، إلى بدء سريان قانون الحقوق المدنية الجديد سنة 1965.

أخذ الاتحاد السوفييتي، أيام الحرب الباردة، يصِم عبر ماكينته الدعائية الولايات المتحدة بالعار على الإنسانية والغياب المشين للعدالة الاجتماعية، مستهدفاً على الأخص سياسة الفصل العنصري التي ميّزت بالتكوين الدولة والمجتمع الأميركيين. في المقابل، عمدت الأخيرة ومن باب التصدي للبروباغاندا السوفييتية وتبييض وجه الولايات المتحدة، إلى تجنيد نخبة من الموسيقيين السود، وعلى رأسهم لويس أرمسترونغ ونينا سيمون (من دون علمها)، ليقوموا بجولات فنية حول العالم، وينشروا عبرها موسيقى الجاز، مُبرزين ظاهر التنوع الثقافي.

تجنيد نخبة من الموسيقيين السود للقيام بجولات فنية حول العالم وينشروا عبرها موسيقى الجاز

هكذا، عُيّن أرمسترونغ سفيراً غير رسميٍّ للنوايا الحسنة من قبل وزارة الخارجية الأميركية. إلا أن ذلك لم يمنعه من اختيار اللحظة والمكان المناسبين لتوجيه العتب والنقد الموزون إلى أولئك الذين في قمة هرم القيادة، مؤكداً بهذا على هويته العرقية والطبقية.
في حديث له مع صحيفة "إيبوني" سنة 1957، صرح أرمسترونغ بأنه يتجنب دائماً الحديث وقضاء الوقت مع أبناء الطبقة البيضاء المخملية بعد انتهاء حفلاته ووصلاته الفنية. إذ إن أحدهم، على حد قوله، قد ينصرف ليُشارك بعد ذلك في طقس جماعي يجري خلاله تعذيب أو إعدام أحد الأفارقة السود.

حتى إنه تصدى، بالتصريح المنمّق غير المتزلّف أو المجامل للرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور، حينما أحجم في البداية عن إجبار إحدى ثانويات ولاية آركنساس على دمج السود بين صفوف طلبتها. إذ علق أرمسترونغ بأنه "من المؤسف ألا يكون للأميركي الأسود بلد ينتمي إليه، يحميه، يأخذ بيده ويؤمن له سبل الاستقرار والازدهار". عندها، اتهمته صحف أميركية عديدة بأنه واقع تحت تأثير الدعاية السوفييتية. ولما انصاع أيزنهاوز وأجبر المدرسة على الاندماج، عاد أرمسترونغ ليمدح الرئيس، ويرسل إليه برقية يصفه من خلاله بأنه "إنسان ذو قلب رحيم".

المساهمون