فيلم "رجل الشمال"... حبكة كلاسيكية ومشاهد بصرية مُقنعة

فيلم "رجل الشمال"... حبكة كلاسيكية ومشاهد بصرية مُقنعة

18 يونيو 2022
روبرت إغرز مُقدِّماً "رجل الشمال" في لوس أنجليس في إبريل 2022 (إيما ماكنتاير/Getty)
+ الخط -

استند المخرج روبرت إغرز، في جديده "رجل الشمال" (2022)، على الميثولوجيا الاسكندنافية في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العاشر الميلاديين. إنّه المنطق الأساسي الذي اعتمد عليه، ورسم به ملامح شخصياته وتفاصيلها، وطقوسها الدينية والسياسية والحياتية. اختار أيسلندا حيّزاً مكانياً للأحداث، مع الإشارة إلى فضاء آخر، في بداية الفيلم: شمال الأطلسي، من دون أن يذكر المنطقة بالتحديد، لكنّه أظهر أنّها مملكة "آرفونديل"، التي تعرّض ملكها "غراب الحرب" (إيثان هوك) للقتل والتنكيل من أخيه فيولنير (كْلايس بنْغ). لكنّ الابن إمْلِث (ألكسندر سكارشْغارد) استطاع النجاة بهروبه بقاربه إلى مكان ما، حيث تربّى على القتل والنهب والسلب، فبلغ مرحلة الوحشية، وشعلة الانتقام من عمّه توقد كلّ جزء من حياته، ولن تنطفئ حتّى يثأر لأبيه، ويسترجع ملكه المغتصب، ويحرّر والدته الملكة غودْرَن (نيكول كيدمان).

لاحقاً، يُدرك أنّه لا يزال حيّاً، وأنّ المملكة أُخذت منه، فاستقرّ مع عائلته في أيسلندا بعد الفرار إليها. حينها، طبع إمْلِث جسده بعلامة العبيد، وانطلق على متن سفينة مُحمّلة بهم للوصول إلى عمّه الراغب في شراء عبيد أقوياء، فيقف أمام الرجل الذي سلبه والده وملكه، لا كملك أو ابن أخ، بل كعبد قويّ مفتول العضلات، لديه القدرة على تنفيذ الأعمال الشاقّة والقتال. لهذا اختاره وضمّه إلى فريق العبيد. "اسمعْني يا أودين، يا أبا الآلهة. استدعي ظلال العصور الماضية، حين حكم النورديون الغزّالون النسّاجون أقدار الناس. اسمعْ عن إشباع أمير انتقامه عند بوابات "هيل"، أمير وجهته "فالهالا". انصتْ إليّ".

افتتح إغرز فيلمه الملحمي التاريخي بهذه النجوى، المُغرقة في الروحيّ، والمليئة بعبارات وأسماء عن أماكن مُقدّسة وآلهة كانت تُعبَد في تلك الحقبة الزمنية. عَكس هذه المعطيات في كلّ شخصية، ومعظم الشخصيات، يؤمن بأنّ الشخص الصالح، عندما يموت، ستكون وجهته "فالهالا"، أي الجنّة. لكنْ، رغم هذه الروحيّة المُفرطة، يبقى هؤلاء همجيّين ومتوحشين إلى حدّ كبير، إذ لهم طقوس في القتل والسلب والتنكيل والتعامل مع الدماء. كأنّ الآلهة تأمر هؤلاء وتُسيّرهم بطاقة روحيّة، وتُرشد الأمير إمْلِث للانتقام لعائلته وشرفه، وهذا يحدث في المعركة الفاصلة بينهما على مشارف بوابات "هيل"، أي حفرة الجحيم أو جهنم.

أشبع إمْلِث روح الانتقام فيه بعد أنْ قطع رأس عمه. قبل ذلك، قتل أمّه وإخوته الذين وقفوا في وجهه. في النهاية، هو أيضاً قُتل بسيف هذا العمّ. نقل غغرز مشهد الانتقام والمبارزة بطريقة روحية ومثالية، بغرز العمّ سيفه في قلب إمْلِث، وقطع الأخير رأسَ عمّه، ووضع حدٍّ للانتقام، بعد إقامة الأمير علاقة حميمية مع أولغا (آنيا تايلور ـ جوي)، التي ساعدته في الانتقام، وحملت طفله. هذا الأمر سيجعل ابنه، الملك المستقبلي، يعيش في سلام، انطلاقاً مما ورد في رؤاه وأحلامه.

احترم روبرت إغرز الشرطين التاريخي والحضاري للـ"فايكينغ"، باستعانته بممثلين فارعي الطول وأقوياء، ونقل طقوسهم واحتفالاتهم وأساليب عيشهم الفظّة والخشنة، بالإضافة إلى تعطّشهم للدماء وروح الانتقام، والأهمّ تواصلهم الروحي ومقدّساتهم. هذا كلّه حاضرٌ في ديكور مدروس، من ناحية الملبس والمسكن والإكسسوارات، والملاحق الأخرى المتعلّقة بتلك الحياة. وبحسب مصادر إعلامية، استعان إغرز، بشكل كبير، وتقريباً في كلّ تفصيلٍ، بما كتبه الرحّالة العربي أحمد بن فضلان (877 ـ 960 ميلادية)، بعد زيارته المنطقة بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر بالله، عن عاداتهم وأساليب عيشهم ولبسهم وبنيتهم الجسدية، فأصبحت هذه الكتابات من أهمّ المراجع التي توثِّق المنطقة الاسكندنافية. يُذكر أنّ "المحارب الثالث عشر" (1999)، لجون مكتيرنان، اقتُبس من رواية "أكلة الموتى" (1976) لمايكل كريشتن، الذي استعان، بشكل كبير، بما كتبه الرحّالة نفسه (العنوان الأصلي للرواية: "أكلة الموتى: مخطوطة ابن فضلان عن تجاربه مع الشماليين عام 922 ميلادية")، إضافةً إلى أعمال أخرى كثيرة.

شكّل التنوّع البصري في "رجل الشمال" مصدر قوّة وإبهار للمُشاهِد، خاصّة أنّ روبرت إغرز اعتمد على البحر والشواطئ والأشجار والمساحات الخضراء المعشوشبة والثلوج، كمنطلقات لبيئة تُثير نوعاً من السكينة والترقّب والراحة البصرية، وهذه مُكوّنات جغرافية أصيلة للمنطقة الاسكندنافية. لكنّ لمسته وتلاعبه وربطه تلك الموجودات بتفاصيل معينة، مع اختيار الوقت المناسب، صنعت جمالها وتميّزها، كاختياره لحظةً تكون الرياح فيها غير قويّة، فتُحدِث أمواجاً صغيرة في معظم مساحات البحر، التي تكون في مرمى العين. هذا يجعلها أشبه بلوحاتٍ تشكيلية. بالإضافة إلى دمج بعض الغربان، المُحلّقة والناعقة، في المشهد، ما يوحي بكارثة عظيمة ستحلّ. كما غامر بخلق مَشاهد ذهنية سوريالية، كانت تراود بعض الشخصيات، كرؤى إمْلِث، وشجرة المُلك التي يراها، وروح الانتقام التي تحفر في قلبه. حتّى إنّه صوّر أجزاء من الجسم، كالقلب، وربطها بأشكال معيّنة تدعم الحدث والأرواح المقدّسة.

استعمل إغرز كلّ الأدوات المتاحة لربط الروحيّ بالبصري والإنساني، لخلق صدقية في العمل، وإقامة تواصل مُقنع بين الفيلم والمتلقّي، فتحوّل المُنتَج إلى وثيقة تاريخية بصرية مهمّة. وهذا مختلفٌ عن فيلمه السابق، "المنارة" (2019)، الذي اعتمد فيه على عدد محدودٍ جداً من الممثلين، وعلى فضاء ضيّق ومنعزل.

في جديده، اختار ثيمة مُغايرة، وطريقة بناء ومعالجة مختلفة كلّياً. أي أنّه لم يستثمر النجاح الكبير لـ"المنارة"، والإشادة الواسعة به، بل أنجز تجربة مستقلة، شكلاً ومضموناً، بالاعتماد على فضاءات ممتدة، وزيادة عدد الممثلين، والعمل على حبكة كلاسيكية، التي لا تزال تُعتبر الحصان الرابح لأي مخرج تقريباً، أي الانتقام، خاصّة أنّ النفس البشرية تبحث دائماً عن الإنصاف من الظالم والمعتدي والمتسلّط. جعل إغرز هذا الأمر منطلقاً أساسياً في صنع الإثارة والترقّب والتشويق، لأنّ ذهن المُشاهد سيكون مُعلّقاً بانتظار الإنصاف، والإنصاف في هذه الحالة الانتقام من العمّ الذي قتل والده، وأخذ منه مُلكه. بالإضافة إلى أنّ المدّة الزمنية للفيلم بلغت 137 دقيقة، وهذا وقت طويل نسبياً، يُلزمه بمُعالجة ذكية كي لا يحسّ المتلقّي بثقل الوقت وطوله.

"رجل الشمال" من الأفلام السينمائية التي تعيد اكتشاف جوانب تاريخية مخبّأة، انعكس فيه جهد روبرت إغرز، عبر تفكيكه العلاقة بين الإنسان القديم ومقدّساته ومنطلقاته الدينية، وكيفية استغلال تلك المنطلقات من أجل السلطة والنفوذ والسيطرة، مُقدّماً هذه المعطيات في قوالب جميلة وسلسة ومعقولة.
 

المساهمون