سينما الشارع: تلك الشاشة القماشية في ميدان 25 يناير

سينما الشارع: تلك الشاشة القماشية في ميدان 25 يناير

25 يناير 2022
كان يمكن للمبادرة أن تستمرّ، لكن ذلك لم يحصل (Getty)
+ الخط -

ضمن ما ولدته ثورة 25 يناير 2011 من إبداع، جاءت "سينما الشارع"، ذلك الفن البسيط، منخفض الكلفة، عميق المعنى، وشديد التأثير... مبدعون من الشباب الثوري، معظمهم كان من المقيمين الدائمين في ميدان التحرير خلال 18 يومًا تفصل ما بين الشرارة الأولى للثورة، والسقوط الكبير للنظام، عرضوا بإمكانيات بسيطة، أفلامًا قصيرة في الميدان، كانت بمثابة "دفتر أحوال للثورة".
تعرضت ثورة 25 يناير، بعد اندلاعها، إلى محاولات عديدة للتشويه، ووصفها بالمؤامرة، وبدأ البعض وقتها في بذل قصارى جهده لتسويد وجوه الثوار الذين وقفوا في قلب الميدان، واضعين حياتهم تحت أقدامهم، مقابل إسقاط نظام حسني مبارك.
لم يقف مؤيدو الثورة مكتوفي الأيدي وقتها، خاصة في ظل وقوف بعض وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت مع ما يقولون وتأييدهم له، بل أرادوا إثبات أن بعض الثوار تعرضوا إلى انتهاكات عديدة أثناء الثورة، وذلك من خلال ما أطلقوا عليه "سينما الشارع".
بأقل التكاليف، أرادوا إيصال رسالتهم إلى الجمهور بعيدًا عن الأجهزة الإعلامية المدفوعة لما تقوله، وكانوا يعرضون على شاشة مصنوعة من القماش الأبيض، أفلامًا مدتها قصيرة، ترصد ما تعرض له الثوار من ضرب وإهانات، والمحاولات المستميتة من الثوار للبقاء وسط الميدان رغم ما يتعرضون له.
أنتج سينما الشارع أشخاص ليس لهم أدنى علاقة بالسينما، بل أشخاص عاديون من قلب الميدان، أرادوا توصيل رسالتهم بأن ثورتهم تطالب بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وإسقاط حكم مبارك بشكل مشروع، وليست الصورة التي يتم تصديرها عنهم.
تكلفة قليلة للغاية قد لا تتجاوز المئة جنيه مصري كلفة هذه "السينما"، ولكن مغزاها يعادل ملايين الجنيهات، على حد تعبير أحد ممن ساهموا بصناعة هذه الأفلام. يقول أحمد شاهين، الذي يعمل مهندسًا معماريًا، إنه كان أثناء الثورة لا يزال طالبًا، لكنه نزل مع مجموعة من أصدقائه في قلب ميدان التحرير وافترشوا الأرض هناك، وكانوا ينامون في الشارع، من أجل هدف واحد، وهو أن يعيشوا "مثل البني آدمين"، أشخاص يحلمون فقط بالعيش بكرامة، من دون كبت للحريات وقمعها. وكانوا -على حد قول شاهين- يرون عبر بعض أجهزة الإعلام كلامًا لا يمت إلى الثورة والثوار بصلة، إذ زعم البعض بـ "أننا نسعى للتخريب"، وتم تصوير "عناصر دخيلة علينا لإظهارهم ممثلين لنا وللثورة، ويظهر أنهم هم الطرف الذي يتعرض للانتهاكات".

يوضح شاهين: "كل هذا الظلم دفعنا إلى أن نفكر في كيف نعبر عن أنفسنا، وكيف ندافع عن حقوقنا، فانطلقت من هنا فكرة "سينما الشارع"، وكانت عبارة عن قماشة عريضة لونها أبيض، ومكبرات صوت وجهاز كمبيوتر يتم توصيله بالكهرباء، لعرض الأفلام القصيرة للغاية، ولكن كان يعاد عرضها على مدار اليوم كاملاً، وكل ذلك بتكلفة لا تتجاوز المئة جنيه مصري".
من جهته، يقول حامد، الذي يعمل في إحدى المؤسسات الحكومية، إنه حاليًا في الأربعينيات من عمره، ووقت الثورة كان في أوائل الثلاثينيات. منذ يوم ميلاده وهو لا يرى سوى نظام الرئيس مبارك في كل حياته، وكان لديه أصدقاء معتقلون في السجون، وتعرضوا إلى انتهاكات عديدة، لذلك شارك في الثورة لإسقاط هذا البطش، وكان واحدًا من مبدعي "سينما الشارع" التي وصفها بأنها "من أهم الأدوات التي استخدمت لإعلاء صوت الثوار والدفاع عن أنفسهم"، مبينًا أن "أزمة توصيل القماشة والكمبيوتر والسماعات بالكهرباء كانت هي ما يشغلهم"، خاصة أن الكثيرين من أصحاب المحال التجارية كانوا يرفضون إعطاءهم وصلات كهرباء، خوفًا من أن يتعرضوا للسجن لمشاركتهم في عرض الأفلام، ولكن تم التوصل وقتها إلى حل عن طريق توصيل الكهرباء من خلال بعض أعمدة الإنارة في الشارع، واستطاعت فعلًا سينما الشارع بتكلفة لا تذكر أن يصل هدفها إلى الكثيرين، وتتفوق أحيانًا على الأجهزة الإعلامية وبعض المواقع التي كان كل شغلها الشاغل إجهاض الثورة.

نقاد وسينمائيون يصفون التجربة بأنها "كانت إحدى إبداعات الثورة المصرية" التي "للأسف تم القضاء عليها كما تم القضاء على مشروعات فنية أخرى مرتبطة بالشارع، مثل (الفن ميدان) الذي كان يقام بميدان عابدين، لأنها تتحدث عن الشارع من دون أي قيود تفرضها الأنظمة، أو تفرضها شركات الإنتاج التقليدية".
يشير هؤلاء النقاد إلى أن فكرة "سينما الشارع"، وغيرها من المشروعات الثقافية الثورية، كان يمكن لها أن تستمر وتمتد وتتطور، ولكن طبيعة الموضوعات والقضايا التي كانت تتناولها، كانت كفيلة بإثارة حفيظة الأنظمة، مثل الحديث عن القضية الفلسطينية، ودعم غزة أمام العدوان الصهيوني، وشهداء الثورة، وقضية الحرية، وغيرها من القضايا المهمة. كما ساهمت "سينما الشارع" في كسر قيود استخدام الفضاء العام، وفي الخروج بالفن والثقافة من جدران المؤسسات الرسمية المغلقة، بهدف نشر الثقافة والفنون وتشجيع المواهب الجديدة، وإتاحة فرص التعبير الإبداعي الحر لكل المواطنين المصريين دون تمييز وعلى أوسع نطاق ممكن.

تلك الإبداعات التي ظهرت في أثناء الثورة وارتبطت بها، ساهمت بشكل كبير في تشكيل الوعي لدى الشباب وكل من اقترب من الثورة، ولذلك تمت محاصرتها أمنيًا حتى تراجعت لصالح نوع آخر من الفن الذي يساهم في تغييب الجماهير، وهو ما يتم برعاية الدولة.
تلك المشروعات التي تعتمد على استغلال الشوارع والميادين والمساحات العامة بشكل عام في تقديم خدمات ثقافية مجانية تستهدف الفئات الاجتماعية والاقتصادية المتنوعة وتصل لهم في أماكن وجودهم، لم تصمد أمام المضايقات الأمنية والتضييق على حرية التعبير الفني.

المساهمون