رياض السنباطي... ألحان في لحظة ملتسبة

رياض السنباطي... ألحان في لحظة ملتسبة

11 سبتمبر 2023
ينتمي إلى عصر موسيقي اختلطت فيه الكلاسيكية مع التغريبية (فيسبوك)
+ الخط -

لم يحظ موسيقي عربي بقدر التبجيل الذي حظي به رياض السنباطي (1906 - 1981)؛ فقد اقترن اسمه دائماً بهيبة وتقدير لدى الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، بالرغم من أن ألحانه لا تختلف عن ألحان أقرانه الثلاثة، محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، في كونها تنتمي إلى النمط الموسيقي الذي ساد واستقر بعد انتهاء ما يعرف بالحقبة الحامولية، التي يعتبرها كثيرون حقبة "الكلاسيكية الخالصة".

صحيح أن لكل واحد من هؤلاء الأعلام شخصيته التلحينية المتميزة عن الآخرين، لكن هذا الاختلاف أو التنوع يقع كله ضمن إطار الموسيقى الحداثية، التي فرضها المسرح الغنائي، ثم رسختها السينما. وفي داخل هذه المنظومة، تداخلت عدة عوامل لتمنح موسيقى السنباطي شخصيتها، وتكسبها هذا التبجيل والاحترام الاستثنائي.

بالطبع، لا يمكن رد المكانة الجماهيرية للسنباطي إلى عامل واحد، لكن الركيزة الأساسية التي بنى عليها الرجل شعبيته واحترامه تمثلت دوماً بحرصه الشديد على أن تكون جملته الموسيقية مقنعة ومنطقية في أذن المستمع العادي، المتمرس بكثرة الاستماع لا بالدراسة الأكاديمية.

يتجنب السنباطي أن تكون مفاجآته من أجل المفاجأة، أو أن تأتي "تجديداته" من أجل "محض التجديد". وهو بذلك يفرض على نفسه قيوداً طوعية، ويلزم نفسه بطريق صعب، لا يعرف التسرع ولا الاستسهال، ولا استجلاب رضا الجماهير بإيقاع لا يسيغه السير اللحني.

كان محمد عبد الوهاب من أبرز الذين انتبهوا وأشاروا إلى منطقية الجملة السنباطية، ووفق ما جاء في "أوراقه" التي صدرت بإعداد الشاعر فاروق جويده وتقديمه، أقرّ عبد الوهاب بأن ألحان السنباطي "تتميز بالجلال والجمال والاحترام، وأنه من أقدر الموسيقيين على تجهيز لحنه للقفلة، فهو يحضر لها تحضيراً محكماً منطقياً، بحيث إن المستمع إليها يبدو وكأنه يعرفها أو كأنه لحنها. وفي ألحانه لأم كلثوم نجد أن الجمهور قد صفق لها قبل أن تقفل، لأن السنباطي قد جهزها وحبكها ومنطقها. إن ملحناً عنده هذه الرؤية وهذه الثلاثة، عندما يلحن نهاية الجملة بهذه المنطقية فإنه في يقيني قد لحن القفلة، ولحن تصفيق الجمهور أيضاً".

لكن بعض كلمات محمد عبد الوهاب عن السنباطي، جاءت متشابهة كثيراً مع طريقة أبي الطيب المتنبي في مدح كافور الإخشيدي. أي إنها مدح يستبطن ذماً، أو على الأقل تحمل وجهين، مع تلاعب صياغي أتقنه موسيقار الأجيال، وتمرس عليه في لقاءاته وحواراته الصحافية والإعلامية. قبل حديثه عن السنباطي، كان عبد الوهاب قد تكلم عن محمد القصبجي، ووصفه بأنه كان ثائراً أكثر منه جميلاً، ثم تحدث عن السنباطي، بما يعني أنه كان جميلاً ولم يكن ثائراً، وهو ما يستبطن إشارة إلى اعتقاد عبد الوهاب في نفسه أنه فقط من جمع الثورة والجمال.

يصف عبد الوهاب ألحان السنباطي بأنها "تحترم التقاليد والآداب والعرف" و"نشعر أنها قادمة من زمن سحيق، وفيها جذور عريقة. ونشعر في ألحانه بالتفكير الهادئ والتريث، ولا نحس فيها بثورة أو تمرد. لا تكسر التقاليد ولا تتعدى القواعد، ولا تخالف المنطق". هكذا يكرس عبد الوهاب من خلال هذه العباراة لفكرة "تقليدية السنباطي" الذي هو -برأيه- ملحن محترم لا يثور ولا يتمرد. والحقيقة أن عبد الوهاب يمثل رأساً لذلك التيار الذي جعل من ألفاظ "التجديد" و"التطوير" و"الثورة" و"التمرد" معايير قياسية لوزن أي عمل موسيقي أو تلحيني، مع استعداد دائم للتجريب، والمخاطرة، ما يعني أن هذه "المقاييس" ستكون غالباً في صالحه.

لكن الدقة تقتضي الإشارة إلى أن عبد الوهاب، بعد أن اطمئن إلى انفراده بموقع الجمع بين الجمال والثورة، تحدث عن رياض السنباطي بإجلال كبير، وقال إن عظمة ألحانه تكمن في "الصدق.. فالسنباطي صادق في ما يقدمه، لا يقدم شيئاً إلا إذا كان مؤمناً به. ولا يوجد داخل السنباطي غير السنباطي، لأن منبعه منه. لم يقلد أحداً رغم معايشته للعصر الذي وجد فيه".

كذلك تحدث عبد الوهاب عن السنباطي المطرب والعازف، فقال: "هو من أقدر المطربين الذين استمعت إليهم. في صوته نبرات مرنة عالية مطيعة يتمكن بها من يؤدي القفلات التي تستعصي على مطرب آخر، وبدون عناء لأنه فنان موهوب... يمكنه أن يُعدي المستمع إليه بشجنه. وهو عواد نادر الوجود. وربما لا يوجد من في كفاءته وشرقيته في الأداء. وهو يهوى الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، ويحتفظ بأغلب السيمفونيات والكونشرتات لكبار العباقرة. وقد تأثر بهذه الموسيقى، ويعزف بعضها على العود".

ولا ريب أن قدرة السنباطي الاستثنائية في عزف العود كانت من أهم أسباب مكانته في الأوساط الفنية المصرية، وما زالت التقاسيم القليلة التي سجلها للإذاعة أواخر السبعينيات، تمثل محطة مهمة للباحثين في هذا الميدان. وقد تناول العازف والأكاديمي ممدوح الجبالي في أطروحته للدكتوراه "الصعوبات في موسيقى السنباطي"، بتحليل عينات من الألحان، وإبراز التعقيد اللحني والصعوبات التكنيكية في عزف اللحن. يقول الجبالي إنّ "السنباطي أدرك أنّ العود آلة تخاطب الوجدان لا الأبصار، وإنّها آلة سلطنة. فالسنباطي أعظم من أمسك بآلة العود، وما تركه من تقاسيم يعتبر ثروة فنية، ما زالت بحاجة إلى مزيد من البحث والدرس".

وإذاً، فإن السنباطي -كأقرانه- ينتمي إلى عصر الموسيقى المهجنة، أو إلى تلك الخلطة بين ما يعرف بالكلاسيكية القديمة، والموجة التغريبية ذات الطابع الحداثي، لكن السنباطي صنع لنفسه مقادير خاصة من تلك الخلطة العجيبة، حتى لا يكون الأثر الغربي في ألحانه مزعجاً لعموم المستمعين، الذين كانوا يتلقون ألحانه عبر صوت أكبر مطربات العرب، أم كلثوم، التي أعجبت كثيراً بالمقادير السنباطية، ووجدت فيها ما يرضي ذائقتها وجمهورها العريض في بلاد العرب، الذي تعوّد سماع الأغنية المسرحية الطويلة، التي تنقسم إلى مقاطع، تنتهي بقفلات حراقة، ينفعل معها الجمهور انفعالاً قوياً وفورياً.

وبالرغم من إقرار محمد عبد الوهاب بأن السنباطي كان أستاذ القفلة، إلا أنه عاد لمزج مدحه بمسحة انتقادية، فقال: "في بعض ألحان السنباطي الطويلة أحياناً ما نسمع له مقدمة جليلة، ثرية، طويلة الجمل كالتأليف السيمفوني. ولكن لا يلبث عندما تجيء لحظة الغناء أن تجد هذا الثراء وهذه الفخامة قد اختفت، وانتقلت إلى شيء آخر لا يمت إلى هذه المقدمة بصلة، من حيث اللون والفخامة والجلال". ثم يواصل عبد الوهاب هوايته في تغليف المدح بالقدح فيقول: "أشعر في ألحان السنباطي بكبرياء واعتزاز، وأنها تجبرني على احترامها، ولا أشعر معها بثورة أو تمرد".

والإشكال الكبير، أن النقاد والباحثين والكتّاب في الشأن الموسيقي، لا يتفقون على معالم واضحة ومحددة لألفاظ "التجديد" و"الثورة" و"التمرد الموسيقي"، كذلك لا يتفقون حول مفاهيم الكلاسيكية أو الحداثة، ما يعني الاضطرار إلى بذل جهود أكبر لفهم "المزاج العام" أو "ذوق الأغلبية" التي قررت إضفاء هذا الاحترام والتقدير على ألحان السنباطي، وكان احترامها وتقديرها من الوضوح والاستمرار إلى حد لم يستطع عبد الوهاب أن ينكره، وإن حاول ألا يكون مدحه للرجل سبباً للمنافسة على المكان الأثير لدى موسيقار الجيل، ثم الجيلين، ثم الأجيال، وهو مكان "المجدد" و"الثائر".

نعم أقرّ بأنّ السنباطي، هو ملحن القفلة الأول، لكنه لم يلبث أن شكك في استمرار القفلات الحراقة في الغناء العربي الحديث، لأن الأصوات الجديدة ليست لديها قدرة أم كلثوم في أداء هذه القفلات، وهو ما يعني إجادة تلحين القفلة لن يكون لها كبيرة فائدة في مستقبل الأيام. لخص عبد الوهاب موقفه من السنباطي، فوصفه بأنه كان جميلاً أكثر منه ثائراً... لكن الجماهير العربية العريضة، جماهير أم كلثوم، أرادت السنباطي كما هو؛ أستاذ التوازن المدهش، وفيلسوف الجملة المنطقية، وأستاذ القفلة الحراقة.

المساهمون