رسائل من غزة: "كلّ يوم أطلّ على رأسي نكايةً بالقتل"

رسائل من غزة: "كلّ يوم أطلّ على رأسي نكايةً بالقتل"

05 يناير 2024
تتواصل حرب الإبادة على غزة منذ السابع من أكتوبر (مجدي فتحي/ Getty)
+ الخط -

يكتب الفلسطينيون رسائلهم من غزة حيث يتعرضون لحرب إبادة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ينعون أهلهم وأصدقاءهم وزملاءهم وجيرانهم وحيواناتهم... كما يقدمون لنا نظرة عن معنى أن تكون إنساناً يشهد على إبادة شعبه.

في 10 أكتوبر الماضي، كتب الكاتب المسرحي علي أبو ياسين: "ليلة أمس كانت في منتهى الهدوء. أعتقد بأنني غفوت ساعة. أقلّ أو أكثر قليلاً. لم يتوقف صوتُ الزناناتِ والطائراتِ والمدافعِ لحظة. كلُّ ذلك لا شيء حينما يسقطُ صاروخٌ أو برميلُ بارودِ وزن طن، أو ستةُ براميلٍ في آنٍ واحدٍ تزلزلُ الأرضَ ترفعُها وترجُّها وكأن القشرةَ الأرضيةَ بالونُ طفلٍ امتلأَ بالهواءِ عن آخرِه يوشكُ على الانفجارِ ويدمّرُ الدنيا. لحظاتٌ تشاهدُ بها الموتَ ألفَ مرّةٍ، وبعدَ انتهاءِ الانفجارِ لا تصدّقُ بأنك لازلت حياً وأنك وُهبتَ لحظاتٍ جديدةٍ بالحياة، وتظلُّ تنتظرُ الانفجارَ القادمِ، الموتَ القادمِ... ربما بعد دقيقةٍ أو دقيقتين على الأكثر. يا لهذا الهدوءِ القاتل... هذه القذائفَ والصواريخَ صُنعتْ لكي تخيفَنا. لا يمكنُ إلا أن تخاف. ولكن كيف لي أن أكتبَ وسطَ كلِّ هذا الهدوءِ المرعب. إنّ هذا لا يتساوقُ مع النّفسِ البشرية. لأنني قد أموتُ بأيِّ لحظةٍ وغير مكترثٍ بذلك، جالساً أكتبُ كأنّ لا شيء يحدثُ من حولي... يبدو أنني جننت. أعتقد ذلك. أو أنني ميتٌ ميتٌ لأقاومَ حتى آخرَ حرفٍ وأوصلَ صوتي إلى العالم. العالمُ الصاخبُ الذي لا أتمنى له هدوءاً مثلَ هدوئِنا، انعموا بصخبِكم، وحينما تشاهدون أخبارَنا، أديروا وجوهَكم عنّا أو غيّروا القناةَ خوفاً من أن نزعجَكم. أتمنى لكم نوماً هنيئاً".

وفي 25 أكتوبر، كتبت الشاعرة وكاتبة القصة فداء زياد: "منذُ بدءِ الحربِ وأنا أنقلُ رأسي مثلَما تنقلُ الجداتُ صناديقَهُنَّ المليئةَ بالذكريات، أُمرِّنُه على التَذكر. رأسٌ به ذكرياتُ بيتي وملامحُ حارتي وشكلُ البحرِ من الشباك، وصراخُ الصغارِ في الصباح، وصوتُ الإذاعةِ وشكلُ الطريقِ إلى العملِ في السابعةِ صباحاً، وملامحُ الركابِ في السيارة، وصوتُ صباحِ الخيرِ المكررِ والمملِ للزملاء. وصوتُ الهواءِ ورائحةُ الندى على الشجرِ وانحناءُ الوردةِ على الشجرةِ تنذرُ بقطافِها. وصوتُ خطواتِ الطلابِ للّحاقِ بالباص. وملامحُ كلِّ من يمرّونَ ولا نعرفُهم. وحين صارَ الخروجُ من كلِّ هذا، خرجتُ ومعي رأسيَ الصندوق، أفسحتُ فيه مكاناً لأسماءٍ جديدةٍ من الأشخاصِ وملامحِ بيتٍ جديد، وصوتِ صباحِ الخيرِ القَلِقَة، وإذاعةِ أسماءِ البيوتِ التي قُصِفَت، وشكلِ الشباكِ الخائفِ من الاهتزازاتِ وملامحِ زجاجِه المكسور، والاحتماءِ بكرسيٍ قريب. صارَ في الصندوقِ ملامح جديدةٌ لِحاراتٍ جديدات وأسماء جديدة لم تكن الحياةُ تلقيها في الصندوقِ لولا الحرب، لولا النزوح، ولولا الاضطرارُ للوقوف بالطابور. كنتُ قبلَ ذلك أخشى من ثُقبٍ في رأسي فتنسالُ منه كلُ ذاكرتي دونَ أن ألحقَها. أما في الحرب، فلدي تمرينٌ منذ عشرين يوماً أبدّلُ الملامحَ بالملامح، والأصواتَ بالأصوات، والأسماءَ بالأسماء، والحزنَ بالحزن. كلُ يومٍ أطلُّ على رأسي نكايةً بالقتل. فلي بعدَ هذا طريقٌ طويلةٌ بأحبالٍ كثيرةٍ أُعلّقُ عليها كلَّ هذا، وأبكي كلما نشفتْ الذاكرة".

الرسالتان نشرتهما صفحة مؤسسة العمل للأمل على "فيسبوك".

المساهمون