حيث نموت بأسمائنا فلا نتوه بين المقابر

حيث نموت بأسمائنا فلا نتوه بين المقابر

17 أكتوبر 2023
تتواصل معاناة غزة مع عدوان الاحتلال (علي جاد الله/ الأناضول)
+ الخط -

أحاول الكتابة فأفشل. أتابع الصور. ليل نهار أتابع الصور. أحلم بالصور. عندما أنام أحلم بالصور: طفل صغير يركض على الشاطئ. يتلفت ضاحكاً فأكاد أسمع تلك الضحكة المدهشة، كأنها قطعة معدن على رخام. تتدحرج ثم تنقلب فتتأرجح حتى تستقر على أحد وجهيها. ذلك الرنين المتقطع الذي يرتفع ثم ينخفض كأنه شهقة تُبلع فجأة فتترك صوت الأنفاس وحدها ما يعبّر عن الوجود نفسه.

يختفي الشاطئ الأبيض، رمله يختفي، السماء التي تُظِله تختفي، ويبقى ذلك الطفل بشعره الطويل الهائج وهو يلتفت إليّ دون سواي. إذ ذاك أصحو وأنا أشعر بالعطش.

أذهب إلى غرفة الجلوس. أفتح التلفزيون والآيباد. ثمة صورة لطفل باد وهو يمد يده. ثمة ما هو مكتوب على باطن يده. إنه اسمه وعنوان منزل أهله في غزة. أشعر بكآبة غامضة. أقول لنفسي إنه خائف. أقول لنفسي إنني خائف. إنني أكتب اسمي الآن على باطن يدي بحبر أزرق. قد أتوه في الشوارع. قد أُقتل بقذيفة غادرة، فإذا عثروا عليّ سيعرفون أنني شخص بعينه. لست جثة مجهولة. لست بلا اسم. لست بلا بيت، فبيتي ليس بعيداً. إنه هنا. لست درويشاً ولا متصوفاً لتكون الأرض أو خطاي بيتي ومقصدي. لا إنّني إنسان صغير. أنا الإنسان الصغير الذي قد يبتلعه العدم إذا ضاع اسمه، أو ضلّ الطريق إلى بيته، فلا قبر يا الله إذا لم يكن ثمة اسم.

هل تتخيّل ليزا هناك، في تلك البلاد البعيدة أن أقرانها في قطاع غزة يكتبون أسماءهم على باطن أيديهم حتى يتعرّف إليهم رجال الإسعاف إذا عثروا عليهم مقتولين تحت الأنقاض أو على زوايا الشوارع؟ هل يعرف ذلك جاسم في قطر وتركي في جدة ومحمد في السويس؟ هل يعرفون رعب الغزّي بأن يتوه ابنه بين الأسماء إذا مات؟ هل يعرفون هول ذلك الرعب الوجودي المزلزل الذي قد يجتاح قلب أم أو أب عندما يتوه ابنه أو ابنته الآن في شوارع دير البلح، وأنه قد يقتل وهو يركض بعينيه اللتين تحدقان في العدم، في عري العالم، وأن همّه أن يموت باسم وعنوان بيت دون غيره؟

ثمّة طفل صغير على الشاطئ. يلتفت. يضحك. لا صوت في العالم كله يشبه صوت ضحكته تلك.

أحاول الكتابة فأفشل.

لم تكن تلك مشكلة جدي، محمد حسين زقوت، الضرير، بعينيه المطفأتين. إذا صافحك عرفك. يكفي أن يلمس باطن يدك حتى يعرفك فيناديك باسمك. كان يرى ما يريد أن يرى، ولم تكن بحاجة إلى أن تكتب اسمك على باطن يدك ليعرفك، فالأشياء واضحة ونهائية بالنسبة له، فثمة بيت في مخيم الشاطئ لا يبعد أكثر من مئات الأمتار عن البحر نفسه، والبيت هو بيته. يقولون بيت أبي عبد العزيز فيكون المقصود بيته ولو كان ثمّة سواه يكنى بالكنية نفسها. بغريزة القطط تعرف الناس، جيرانه والباعة في السوق ومرتادو المسجد القريب وصيادو السمك أن بيته هو المعني إذا قيل لهم بيت أبي عبد العزيز.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

لم يكن بحاجة إلى أن يكتب اسمه على باطن يده. كان وجوده نفسه يعني البيت والاسم معاً، وأنت لم تكن بحاجة إلى كتابة اسمك على باطن يدك ليعرفك، إذ يكفي أن تصافحه حتى يعرفك ويناديك باسمك. لم يكن ثمة ذلك الرعب الوجودي في أن تصحو ليلاً فتجد نفسك قد فقدت اسمك وبيتك، أو مدفوناً في قبر بلا شاهدة تحمل اسمك واسم أبيك وجدك.

كل شيء تغيّر يا جدي، وها أنا أحاول الكتابة فأفشل.

هناك، حيث دفنتَ، تسقط الصواريخ يا جدي. هناك، حيث عشتَ وحيداً ومخذولاً ومُخاناً في هذا الكون... لولا سكينة أبو شوقة (جدتي من جهة الأم) وخالتي مُدلّلة. هناك يقتل الأطفال بعينين مفتوحتين وقد رأوا ذلك الرعب العظيم. هناك في مخيم الشاطئ حيث ثمة طفل بشعر هائج وضحكة ترن على الرخام ثمة من يقصف غزة والبحر والبر والسماء. أين نهرب يا جدي؟ وإذا هربنا ماذا نفعل في طريق الهروب؟ هل نخاف؟ هل نكتئب؟ هل تختلط المشاعر فنضحك؟ نعم، نعم، والأهم أن نكتب أسماءنا على باطن أيدينا فإذا أصابتنا القذيفة نموت كاملين كما يليق بالقتلى وهم يدفنون بكامل أسمائهم.

يا للوحشة!

أحاول الكتابة فأفشل.

المساهمون