حكاية الأرض للدحيح... قضية فلسطين من دون العدوان على غزة

حكاية الأرض للدحيح... قضية فلسطين من دون العدوان على غزة

23 نوفمبر 2023
في مخيم النصيرات (محمود الهمص/ فرانس برس)
+ الخط -

اكتسحت الإشادات بحلقة أحمد الغندور، المعروف بالدحيح، "فلسطين حكاية الأرض"، مواقع التواصل الاجتماعي، إذ رأى بعض المعجبين أنها أفضل حلقات البرنامج على الإطلاق. ولم يتوانَ بعضهم عن وصفها بأنها تستحق أن تدخل ضمن المنهاج التعليمي في المدارس، فيما انتقد آخرون عدم تطرقه إلى ما يشهده قطاع غزة حالياً، ولم يتناول حركات المقاومة، فوجدوا أن السردية التاريخية التي رواها على مدار أكثر من 60 دقيقة، قابعة في الماضي، وتسرد تاريخ الصهيونية، لكنه لم يأتِ على ما يحصل الآن من مجازر بحق الشعب الفلسطيني في القطاع المحاصر منذ 16 عاماً.
يفتتح الدحيح حلقته بواقعة مجرزة قرية الطنطورة، مشيراً إلى متحف ومصيف سياحي، بُني فوق جثث ضحايا المجرزة التي ارتكتبها العصابات الصهيونية، ليغرق بعدها بسرد وقائع تاريخية لقصة النكبة الفلسطينية.
يمكن أن تبدأ الحكاية من مجزرة الطنطورة عام 1948، ولا سيما أنها "مجاز عن إسرائيل"، كما يذكر الدحيح. فهذا المنتجع الكبير، ما هو إلا صورة مصغرة عن إسرائيل، إذ أُسّس العمار الحديث فوق جثث أصحاب الأرض الفلسطينيين، وكل ما يفصل بين المجازر والبناء المعاصر، قشرة أرضية لا يتجاوز عمقها المتر.
لكنه لم يبدأ القصة من هنا، فالطنطورة ليست البداية، وإنما اختار أن يسردها من نقطة سابقة، أيّ فلسطين قبل الاحتلال البريطاني، بالتحديد منذ بزوغ فكرة الصهيونية في العالم وتداعياتها المتمثلة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مستنداً إلى وثائق مذكورة ضمن مصادر إسرائيلية، تدين سياسة الاحتلال.
يطعن الدحيح بالأساطير الصهيونية، التي يستند فيها إلى كتاب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، "عشر خرافات حول إسرائيل"، ويبدأ بنقد أولى الأفكار الصهيونية، ألا وهي "اليهود شعب مضطهد". يشير الدحيح إلى أن المجتمعات اليهودية في العالم العربي، كانت جزءاً من النسيج  الوطني، فلم يتعرضوا لأي تهديد وجودي، ولا سيما إبان الاحتلال العثماني الذي لم يضطهد اليهود على الإطلاق، حسب قوله، وإن نالهم بعض التهميش؛ فالأمر لا يتعلق بكونهم يهوداً، بل حالهم كحال الأقليات الأخرى.
يتحدث الدحيح أيضاً عن صعود القوميات في أوروبا في القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت، كان اليهود الأوروبيون يعيشون في "غيتوات"، وهي نوع من المجتمعات المنكفئة على نفسها. ترافق صعود القوميات مع مفهوم المواطنة الذي يقتضي منح جميع المواطنين حقوقاً متساوية. وعلى افتراض أن اليهود مضطهدون، كان من الممكن أن تشكل المواطنة فكرة مثالية لهم للاندماج في مجتمعاتهم وفرصة لنيل حقوقهم.
وعن خرافة "اليهودية هي الصهيونية"، فيعود إلى جذور فكرة الصهيونية، مشيراً إلى أن ثيودور هيرتزل الملقب بـ "الأب الروحي للصهيونية"، كان لا يتردد بإعلان إلحاده، فلا علاقة للدين اليهودي بقيام دولة إسرائيل، وما توظيف الدين إلّا ذريعة لتحقيق مآرب استعمارية في الشرق الأوسط.
بالعودة إلى نواة الفكر الصهيوني، الذي جاء من تزاوج الدين والسياسة، يوضح الدحيح أنه ظهر لدى المسيحيين البروتستانت، وهو معتقد يجد في عودة اليهود إلى القدس وبناء الهيكل، تمهيداً لظهور السيد المسيح.
يقول الدحيح إن "ما عزز رفض اليهود الاندماج في المجتمعات التي أتوا منها، هو عنصرية الفكر الصهيوني، وذلك كونه يحمل في أعماقه كراهية الآخر، وتوهم اضطهاده من قبل الآخر، فالوطن الذي تطلعت الصهيونية لتأسيسه، لا حضور لغير اليهودي فيه". 
يستقي الدحيح معظم مصادر الحلقة من أفلام ومؤلفات لمؤرخين إسرائيليين لم يتستروا بغطاء المظلومية اليهودية، مشيراً إلى مصطلح "اليهودي الكاره لنفسه"؛ فالصهيونية التي ترى أن "كل آخر معادٍ للسامية بالضرورة"، سترى اليهودي الذي يعارض سياسة إسرائيل معادياً لنفسه، وهذا الكره الكوني لليهود كفيل بحد ذاته لبناء وطن يلم شتاتهم. بعبارة أخرى، الصهيونية هي رد فعل على العنصرية ضد اليهود بعنصرية أشد ضد العالم.
في هذا الخصوص، يشير الدحيح إلى عبارة إيلان بابيه: "أسوأ ما فعلته الصهيونية هو التلاعب بالديانة اليهودية باستخدامها الدين كمبرر لتحقيق مآرب استعمارية".

وبطبيعة الحال، لا يمكن تشريح الهرطقات الإسرائيلية، من دون الحديث عن فكرة "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض". ويعود فيها للحديث عن فلسطين ما قبل النكبة، عارضاً صوراً لمينائها وبعض ملامحها التي تجاري بها دول العالم. ويبين أن قصص الرحالة والمستشرقين عن الشرق، بما فيه فلسطين، عززت المطامع الاستعمارية، فكانت شهادات الرحالة العائدين من فلسطين توثق أنها أرض مقفرة أو أطلال لشعب قديم مهاجر، يعيش فيها شعوب من سكان الخيام لا هوية لهم. وبناءً على تلك الخرافة، تدفقت الهجرات، وبدأت موجة شراء الأراضي من الإقطاع تصبح ذات طابع منظم. 
وترافق استملاك الأرض مع إجراءات ترسخ تهميش الفلسطينيين، من رفض العمل معهم وفرض العمالة اليهودية، بالإضافة إلى الحراسة المشددة للأراضي لبناء علاقة وثيقة معها، ومن ثم سيشرع الاحتلال ببناء المستوطنات، ومنها تشكلت نواة الاحتلال الاجتماعية.
بطبيعة الحال، يحمل السرد التاريخي إدانة لإسرائيل، بيد أن هذه الإدانة يضعف وقعها ما إذا ابتعدت عن الآني، فما تعيشه غزة اليوم لا يقل وحشية عن المجازر الأولى؛ إذ يصعب غضّ النظر عن المجازر الحالية. اكتفى الدحيح بالإشارة إلى الحصار وانقطاع الكهرباء والمياه عن غزة، في ختام سرده التاريخي، خصوصاً أنه افتتح حلقته بمجزرة الطنطورة، لكنه تعامل مع الحاضر بتحفّظ، فالحاضر الدموي لا يجتزأ عن السردية التاريخية ولا يمكن تلطيفه.

"فلسطين.. حكاية الأرض" هي الحلقة الأطول في محتوى برنامج "الدحيح" (62 دقيقة)، والأكثر مشاهدة بين حلقات البرنامج منذ بثه على منصة "أكاديمية الإعلام الجديد"؛ فتجاوزت 11 مليون مشاهدة بعد أسبوع على بدء عرضها، وذلك يعود للقالب التشويقي والغني بالمعلومات الذي يقدم الدحيح محتواه من خلاله، مستقطباً شريحة واسعة من الجمهور، ولا سيما بين الشباب، فالقالب الحكائي الذي لا تخرج حلقة الدحيح عنه، كان من سمات السرد التاريخي لحلقة فلسطين، ولا سيما أن الحلقة بمجملها تحاول تعرية الرواية الإسرائيلية متناولةً تزييف إسرائيل لتاريخها الدموي، وترويج صورة البطل الذي نال النصر بعد إرث من الظلم والاضطهاد.
وهذا الكيان ذو الشخصية التي تقارب أبطال هوليوود الخارقين، عاد بعد 2000 عام ليستعيد حقه المزعوم. هذه القصة التي تكتسي رداء المظلومية من شأنها أن تدغدغ العاطفة والخيال الغربيين.
من الجدير بالذكر أن منتج برنامج الدحيح شركة "أكاديمية الإعلام الجديد" الإماراتية التي تأسست عام 2020 برعاية من حاكم إمارة دبي، وطاولت الشركة اتهامات التطبيع على خلفية عملها السابق مع برنامجي "ناس ديلي" و"أكاديمية ناس"، اللذين يضمّان إسرائيليين بين الكوادر العاملة.
دفع ذلك حملة مقاطعة إسرائيل الشعبية في مصر (BDS مصر) إلى توجيه رسالة إلى أحمد الغندور مناشدة إياه بالتراجع عن العمل مع نيوميديا، كونها شركة غارقة بالتطبيع، حسب البيان. وكان رد الغندور حاسماً حيال الأمر، فقال عبر منشور له على فيسبوك إنه بدأ العمل مع الأكاديمية بعد سنة من فضّ شراكتها مع مؤسسة ناس ديلي، وأضاف الغندور أنه لا يساوم في اصطفافه إلى جانب الفلسطينيين ولا يوارب في دعمه للقضية الفلسطينية. 
حققت حلقة الدحيح احتفاء جماهيرياً عربياً ومصرياً، خصوصاً في ظل غرق الإعلام المصري في رسميته وكلاسيكيته، وتماهيه مع الموقف الرسمي للدولة المصرية. وعلى الرغم من تغطيته المكثفة لحرب غزة الحالية، إلا أن صناع المحتوى بات لهم القدرة على استمالة الشباب بتكثيفهم وأسلوبهم الشيق وابتعادهم عن الخطابية.

المساهمون