الوثائقيان "أصواتي" و"جزائرهم": قلقٌ على الجذور

الوثائقيان "أصواتي" و"جزائرهم": قلقٌ على الجذور

26 أكتوبر 2020
لينا سويلم وجدّها في "جزائرهم": حكاية مأسورَين في المهجر (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

 

التناص الموجود بين الفيلمين الوثائقيين "أصواتي" (2019) لسونيا فرانكو و"جزائرهم" (2020) للينا سويلم لافت للانتباه. يتّخذان من الجَدّات والأجداد منطلقاً للبحث عن الجذور في البلد الأم، بينما يسير السرد في طرقات ومدن فرنسية. الحفيدات ممثلات وفنانات. لينا سويلم مخرجة وثائقيّها، وساردة حكاية جدّيها اللذين انفصل أحدهما عن الآخر بعد 60 عاماً من الزواج. أنيسة كاكي ممثّلة مسرحية وكاتبة، تُحيل ذكرياتها وحواراتها مع جَدّتها، التي جاءت إلى باريس لحضور مراسيم زواجها، إلى نصوص تقدّمها بنفسها على المسرح، وأمام كاميرا فرانكو. كلاهما مهموم بمعرفة الكائن الغامض، القادم من الطرف الآخر من البحر، ومحاولة الوصول إلى أعماقه، لمعرفة كيف يفكر وكيف ينظر إلى وجوده المزدوج.

لكنّ هذا التقارب اللافت للانتباه لا يثير شكوكاً حول مَنْ هو المتأثّر بالآخر: "جزائرهم" أو "أصواتي"، بقدر ما يُحيل إلى التفكير في المقاربة العجيبة، وبقوة الأسئلة الوجودية التي تحفّز حفيدات "فرنسيات" على البحث عن ماضي الأجداد، رغم طول القطيعة وعمقها.

الهاجس الشخصي طاغٍ في "جزائرهم". يدلّ عليه تجاوزُ لينا سويلم غرابة انفصال جَدّيها، وتقصّيها بدلاً منه عن ماضيهما شبه المجهول. غرابة اللحظة التي أعلنا فيها عن انفصالهما، لا الحدث نفسه، دفعتها إلى نقلها إلى السينما. لحظة تجاوزت المألوف في ثقافة مجتمعية محافظة، اعتادت كتمان المشاعر وشجّعت عليه، وأشاعت خوفاً من البوح والمصارحة.

شخصانيّة العلاقة بين أنيسة وجَدّتها تقيّة في "أصواتي" مُلتَقَطة بعينٍ أخرى خارجية، بكاميرا مخرجة أدركت مسبقاً المحفّزات الخفية، التي تدفع عجوزاً جزائرية إلى القدوم من مدينة "بسكرة" للاطمئنان على "جذورها"، وعلى أنّها لا تزال سليمة في تربتها الجديدة. البحث عن الأواصر الجامعة بين أجيال، باعدت بينها ثقافات وجغرافيات، يدعو إلى التأمّل والتفكير. هذا هاجس مشترك بين "جزائرهم" و"أصواتي"، أما المختلف بينهما فكامنٌ في بحثهما في الظروف المتنوّعة التي باعدت بين الجذور، وقوّة تأثير الأمكنة التي عاش فيها الأجداد.

 

 

عائشة ومبروك، جدّا لينا سويلم، جاءا إلى فرنسا قبل التحرير، كـ"عمّال مستعمرات". الجَدّ اشتغل في معمل لصناعة السكاكين وأدوات المطبخ في مدينة "تيير". أسّسا عائلتهما هناك، وتعاملا مع المكان على أساس وجودهما الجديد: "هنا سنحيا مؤقّتاً، ثم نعود". هل فكّرا حقّاً هكذا، في زمن كانت الجزائر يومها، ووفق منطق التاريخ الاستعماري، جزءاً من فرنسا؟ سؤال "مستفزّ"، أخفته لينا سويلم عنهما، وحاولت عدم المساس به أمامهما أثناء التصوير (سويلم ولويز باودينو)، ربما خوفاً من انسحابهما.

الجدّة تقيّة، في "أصواتي" جاءت زائرة. كانت تعرف أنّها ستعود إلى موطنها. العقدة الجذرية كانت تكمن في أولادها وحفيدتها أنيسة. لهذه الشابة ذكريات في المكان الذي جاءت منه الجَدّة. عاشت فيه طفلةً. تتذكّر الحلويات الطيبة التي كانت تعدّها لها تقيّة، وروائح المكان القديم لا تزال قويّة، وتشعر بها. هناك ارتباط أقوى بينها وبين الجزائر من ذاك الذي يجمع سويلم بـ"جزائرهم". لذا، تُرك للكاميرا نقل "أصواتهم" الخفيفة، والمتسرّبة من أحاديثها مع جدّتها، أو عالية النبرة، المُلتَقَطة قرب خشبة مسرح.

البحث الشخصي للحفيدات يتحقّق بعضه بالاستماع إلى الجَدّات. هذه محصّلة فرضها صمت الأجداد أو غيابهم، وهذا يثير عندهنّ حيرة وأسئلة عن أسبابه. سويلم صبرت كثيراً على صمت جدّها، وانسحابه وقلّة كلامه. كانت تجد عند الجَدّة بعض ما تريد معرفته عن حياتها، وعن تفاصيل عيشهما في مدينة المصنع.

أنيسة كانت تتبادل الذكريات، وتستمع بانتباه إلى مواقف جدّتها وآرائها، ليس لأنّها كانت تريد إعادة صوغها من دون اتّخاذ موقف منها كتابةً، بقدر ما كانت تريد معرفة مقدار اختلاف تفكيرها وثقافتها هي عن تلك الموجودة والباقية في المكان الأول الذي جاءت منه. الحيادية غالبة في الفيلمين، وربما بسببها توفّرت مساحة واسعة لمُشاهدها، ليُعيد التفكير في ما يراه من التباس علاقات إنسانية، هناك خروج عن سويّتها من دون تشويه أو مغالاة.

على الزمن، راهنت صانعتا الفيلمين. في إطالته، يمكن الوصول إلى ما يطمحا إليه سينمائياً. "العائلية" ساعدت على نسج ثقة وتجاوز تحفّظات على كاميرا فضولية، لا يتخلّى عنها حاملوها في الظروف كلّها. الجَدّة أكثر انفتاحاً. كلامها ونشاطها اليومي يشي بحيوية غائبة عن الزوج. أرادت عيش حياتها المتبقية بعد تمضيتها عقوداً في كنف عاملٍ، لا يُبقي العملُ الشاق في المصنع من جسده شيئاً له ولراحته. أكلت أعوام العمل حياتهما. وبعد إغلاق المصنع، ظهرت فسحة يمكن من خلالها تعويض ما فاتهما. هل كان ذلك دافعا حقيقيا إلى الانفصال؟

الجدّة تقيّة (أصواتي) قالت، أكثر من مرة، إنّها على مشارف الموت، وإنّها تريد الاطمئنان على ما تركته "وديعةً" خارج البلد. في الوثائقيّين، لا يتّخذ الأجداد موقفاً عدائياً من فرنسا. الخوف من ضياع بذرتها ربما يدعو تقيّة إلى الامتناع عن الكلام بالفرنسية. في "جزائرهم"، التحفّظ على بلد المُستعمِر طبقيّ الدافع، أكثر منه سياسيا أو اجتماعيا. "الجذور"، في فيلمي سوزان فرانكو ولينا سويلم مقلقة، يُنظر إليها بعيون فضولية، تريد إعادة قراءة القادم من الضفة الأخرى من المتوسّط، وسبر سرّ انشداد أحفاده إلى أرض يحلمون، عبر السينما، بالمشي فوقها مجدّداً.

المساهمون