الفضاء الرقمي... جبهة حامية بين روسيا والغرب

الفضاء الرقمي... جبهة حامية بين روسيا والغرب

24 فبراير 2022
هجمات عدة على مواقع أوكرانية اتُهمت روسيا بشنها (ألكسندر أكساكوف/Getty)
+ الخط -

قبل بدء القوات الروسية هجومها المتوقع على أوكرانيا فجر الخميس، بدأت المناوشات بين الطرفين في الفضاء الرقمي؛ في 23 فبراير/شباط الحالي، أعلنت وكالة الأمن المعلوماتي الأوكرانية تعرض البلاد لهجمات إلكترونية "مستمرة" وجهت فيها أصابع الاتهام إلى جهات روسية، إذ استُهدفت مواقع إلكترونية تابعة لعدد من المصارف والوزارات. هجوم رقمي مماثل استهدف المواقع الحكومية الأوكرانية والمصارف في 15 و16 من الشهر الحالي، سرعان ما نسبته الولايات المتحدة وبريطانيا وحكومات أخرى إلى وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية. وفي يناير/كانون الثاني الماضي، شوهت مواقع حكومية أوكرانية برسالة: "خافوا، وتوقعوا الأسوأ".

إلى أي مدى يمكن أن تكون الحرب الإلكترونية الحديثة خطيرة، وهل ستتأثر البلدان الأخرى؟ في حديث لصحيفة "ذي إيكونوميست" الأربعاء، قال الرئيس التنفيذي لـ "المركز الوطني للأمن السيبراني"، وهو الذراع الدفاعية لـ "مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية" (GCHQ)، كيران مارتن، إن "أوكرانيا كانت ملعباً إلكترونياً لروسيا منذ سنوات".

فعام 2016، عطلت برمجيات خبيثة يشتبه بأنها روسية شبكة الكهرباء الأوكرانية، وأدت إلى قطع الكهرباء عن عشرات الآلاف من الزبائن وسط وغرب البلاد، كما أغرق القراصنة المراكز الهاتفية التابعة لتلك الشركات بمكالمات كاذبة، لمنع المستخدمين الحقيقيين من الإبلاغ عن العطل، مما أذكى حينها مخاوف كييف من تعرض منشآت أخرى للبنية التحتية للخطر. وبعدها بعامين، أعلنت السلطات الأوكرانية أنها أحبطت هجوماً إلكترونياً استهدف مصنعاً كيميائياً شرق البلاد، يوفر الكلور لمحطات معالجة المياه والصرف الصحي. ووجهت أصابع الاتهام حينها أيضاً إلى روسيا.

والهجمات الأخيرة التي استهدفت مواقع وزارات ومصارف أوكرانية ليست شديدة التعقيد، فهي من نوع "حجب الخدمة" (DDOS). كيف يعمل هذا النوع من الهجوم؟ توضح شركة "كاسبرسكي" للأمن الرقمي أن موارد الشبكة، مثل خوادم الويب، تخضع لحدود معينة لجهة عدد الطلبات التي يمكن خدمتها في آن واحد. وبالإضافة إلى حدود قدرة الخادم، يكون للقناة التي تربط الخادم بالإنترنت نطاق تردد/ قدرة محدودة أيضاً. ومتى تجاوز عدد الطلبات حدود قدرة أي مكون من مكونات البنية التحتية، من المحتمل تراجع مستوى الخدمة. وعادة ما يكون الهدف الأقصى للمتطفل هو منع العمل الطبيعي لمورد ويب تماماً، أي "حجب الخدمة" بشكل كامل. وفي هذا السياق، أشار الرئيس السابق لـ "وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية الأميركية" (CISA)، كريس كريبس، إلى أن تأثير الهجمات الأخيرة المذكورة كان "ضئيلاً"، وأن هدف المستهدِفين كان "التشويش وتشتيت الانتباه، وربما تمهيد الطريق لهجوم أشد".

طبعاً هذه الهجمات الرقمية ليست مستجدة، إذ كانت جزءاً من الحروب لأكثر من عقدين. الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تحدثتا علناً عن عملياتهما الافتراضية ضد تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسورية. ويرجح الخبراء أن تحاول روسيا اعتماد الأساليب نفسها ضد أوكرانيا، لدعم هجومها العسكري وزعزعة استقرار الحكومة في كييف، عبر نشر الأخبار الكاذبة والمضللة مثلاً.

وقد رافقت معركة تضليل إعلامي شرسة الصراع المستمر منذ 8 سنوات بين موسكو وكييف. ومن بين الأخبار الزائفة التي برزت أخيراً "نداء عاجل" أطلقه قادة أوكرانيون انفصاليون للسكان المحليين بالذهاب إلى روسيا الجمعة الماضي لم يكن عاجلاً، بل سجّل قبل يومين من ذلك. واكتشف الموقع الصحافي الاستقصائي "بيلينغكات" أدلة مرئية تظهر أن سيارة مفخخة قيل إنها استهدفت قائد شرطة انفصالياً كانت مزروعة في مركبة مختلفة تماماً. وأفادت روايات أخرى بأن انفصاليين قتلوا أوكرانيَين حاولا تفجير خزان كلور، وهي رواية رددت صدى مزاعم موسكو بأن كييف كانت تخطط لهجوم بأسلحة كيميائية. ولا تستثنى وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية في أوكرانيا من هذه الحرب. وأشارت منظمة "ستوبفايك" المستقلة إلى بعض الحسابات التي تنشر أخباراً حول احتجاج مناهض للحرب في موسكو باستخدام صور لتجمع حدث عام 2014.

وفي سلوفاكيا المجاورة لأوكرانيا، تنتشر الأخبار الكاذبة حتى عن لسان بعض النواب. فبعد خطاب الرئيس الروسي الذي تحدث فيه عن تاريخ إنشاء دولة أوكرانيا، قال العضو في الحزب الاشتراكي الديمقراطي (سمْير) اليساري المعارض، لوبوس بلاها: "أنا مقتنع بأن بوتين يريد السلام". وأضاف أن أوكرانيا "استفزت روسيا وهددتها" و"الغرب يتهجّم" على موسكو. وأظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة "سلوفاك فوكوس"، الشهر الماضي، أن 44 في المائة من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن الولايات المتحدة والحلف الأطلسي مسؤولان عن الخلافات المتصاعدة بين روسيا وأوكرانيا، فيما حمّل 35 في المائة منهم فقط روسيا المسؤولية.

ويشعر المسؤولون الغربيون بالقلق من انتشار أي نزاع إلكتروني في أوكرانيا، سواء كان عرضياً أو متعمداً. عام 2017، تسبب الهجوم الإلكتروني Not Petya على أوكرانيا في أضرار قيمتها 10 مليارات دولار أميركي في أنحاء العالم كافة. وحُملت روسيا المسؤولية عنه. وهذا الشهر، أصدر المركز الكندي للأمن السيبراني (CISA) تحذيراً للمنظمات الأميركية، ونبّه إلى أن روسيا يمكن أن تصعّد "بطرق قد تؤثر على الآخرين خارج أوكرانيا". وتلقت الشركات البريطانية تحذيرات مماثلة.

وعلى الرغم من أن الدول الغربية قالت إنها لن ترسل جنوداً للقتال في أوكرانيا، إلا أنها بدأت تجهز جبهاتها في الفضاء الرقمي. ساعدت السلطات الأميركية والبريطانية أوكرانيا في تعزيز دفاعاتها الإلكترونية خلال الأشهر الأخيرة، وقد تساعدانها في صد الهجمات على البلاد. قد تسعى الحكومات الغربية أيضاً إلى تعطيل الشبكات العسكرية الروسية أو الاتصالات أو العمليات "الإدراكية"، مثل تغيير البيانات لإرباك القوات الروسية أو تضليلها.

وحذّرت وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، أنه "مع تطور هذه الأزمة" تتوقع الحكومة أن ترى "هجمات إلكترونية تستهدف الغرب". كما قالت رئيسة "المركز القومي للأمن السيبراني" (NCSC)، ليندي كاميرون، إن الهجمات الإلكترونية لا تحترم الحدود الجغرافية"، وحذرت أيضاً من هجمات إلكترونية روسية محتملة على المملكة المتحدة. وهدد وزير الدفاع البريطاني روبرت بن والاس، في بيان لمجلس العموم، بالقدرات الهجومية السيبرانية التي تطورها المملكة المتحدة بالفعل من قاعدة شمال غرب إنكلترا. وحُذرت ملايين الشركات في المملكة المتحدة الثلاثاء، للاستعداد لهجوم إلكتروني روسي، إثر فرض المملكة المتحدة عقوبات على ثلاثة أفراد أثرياء من حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخمسة مصارف، رداً على "الغزو المتجدد" لأوكرانيا. كذلك، كتبت "هيئة مراقبة السلوك المالي"، خلال الأسابيع الأخيرة، إلى الرؤساء التنفيذيين في المصارف البريطانية، تطلب منهم الاستعداد للهجمات السيبرانية التي ترعاها روسيا، وتحثّهم على ضمان تحديث أنظمتهم الأمنية.

في غضون ذلك، أرسلت ست دول من الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء، فريقاً من خبراء الأمن السيبراني إلى أوكرانيا.

وفي الوقت نفسه، يستغل ممثلو تهديدات الويب المظلمة التوترات بين روسيا وأوكرانيا، للاستفادة من توفير الوصول إلى الشبكة وقواعد البيانات التي قد تكون ذات صلة بالمتورطين في الصراع، وفقاً لتقرير جديد صادر عن شركة "أكسنتشر" للخدمات الاستشارية والاستراتيجية والرقمية والتقنية. فمنذ منتصف يناير، بدأ مجرمو الإنترنت بالإعلان عن الأصول المخترقة ذات الصلة بالنزاع الروسي الأوكراني، ومن المتوقع أن يزيدوا عرضهم لقواعد البيانات والوصول إلى الشبكة، مما قد يكون له آثار معوقة محتملة للمنظمات المستهدفة.

وقال خبير الأمن السيبراني من "المعهد الملكي للخدمات المتحدة" في لندن، جيمي ماك كول، لوكالة "فرانس برس"، إن الأشخاص يجب أن يكونوا أكثر مرونة نفسياً حول احتمال وقوع هجمات إلكترونية، لأن المملكة المتحدة واحدة من أكثر الدول التي تتمتع بقدرات على الإنترنت في العالم، ولديها دفاعات إلكترونية متطورة وأيضاً قدرات هجوم إلكتروني لها تأثير رادع على الهجمات الإلكترونية الروسية. وكرّر مسؤول في "حلف شمال الأطلسي" (الناتو)، في حديثه لـ "سكاي نيوز"، أن الحلف وافق على أن هجوماً إلكترونياً خطيراً يمكن أن يؤدي إلى اللجوء إلى "المادة 5"، وتحديداً "بند الدفاع الجماعي". وأضاف أن الرد "يمكن أن يشمل عقوبات دبلوماسية واقتصادية أو إجراءات إلكترونية أو حتى قوات تقليدية".

لكن كيران مارتن قال، في نفس الحديث لـ "ذي إيكونيميست"، إنه "بغض النظر عن الخطاب، يواجه الغرب قيوداً على استخدام قوته الإلكترونية". إذ تنتقد الولايات المتحدة وحلفاؤها دائماً روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، على خلفية سلوكها غير المسؤول في الفضاء الإلكتروني، لذا ستكون شديدة الحذر من اللجوء إلى أساليب مماثلة. وسأل: "أي نوع من العمليات الإلكترونية ضد روسيا من شأنها ردعها حقاً؟"، "ما الفائدة مثلاً من استهداف المؤسسات الإعلامية الروسية؟"، "وهل نتجه بجدية نحو القيام بأكثر من ذلك وتعريض المدنيين الروس للأذى؟".

المساهمون