السينما العربية في المهرجانات الدولية: جرأة طرح

السينما العربية في المهرجانات الدولية: جرأة طرح

17 يناير 2024
من الفيلم الوثائقي "باي باي طبريا" للجزائرية الفرنسية لينا سويلم (IMDb)
+ الخط -

من الأمور السينمائية اللافتة للانتباه عام 2023، المتعلّقة بالأفلام الفنية العربية، على قِلتها، وبصرف النظر عن تفاوت المستوى، والعيوب المزمنة المتجلّية في كتابة السيناريو، وطبعاً تذبذب الإنتاج وتفاوته من عامٍ إلى آخر، أنّ حضور السينما العربية لافت جداً، فنّياً، في المهرجانات الدولية، خاصة الحضور المتميّز للسينما المغربية، المتألّقة في مهرجان كانّ، ودخولها تنافساً قويّاً فعلاً مع سينمات أخرى، وتقديمها اللافت، جودةً وتنوّعاً في الإنتاج السينمائي، كما في الفنيّ الرفيع. كذلك، مُواصلة السينما التونسية مزاحمتها للسينما المغربية في التواجد البارز، والحفاظ إلى حدّ كبير على المستوى الفني الجيد والقوي، وعلى تنوّع الإنتاج.

اللافت للانتباه أيضاً، في الوقت نفسه، وفي العام نفسه، اختفاء السينما المصرية والجزائرية، تقريباً؛ والخفوت الملحوظ للحضورين اللبناني والفلسطيني، مُقارنة بالسنوات السابقة.

أما أبرز الأمور السينمائية التي فرضت نفسها هذا العام، المُشاركة الدولية غير المسبوقة لليمن والأردن والسودان والسعودية في مهرجانات كبرى، كالـ"برليناله" و"كانّ" و"تورونتو". كما لوحظ أنّ أغلب الأفلام الفنية العربية، المُشاركة في أكبر المهرجانات المُنعقدة في العام نفسه كانت لمُخرجين يقدّمون تجاربهم الأولى، مع حرصٍ كبير على تقديم جماليات فنية وبصرية وسردية جديدة ومُتميّزة، ورغبتهم الواضحة في التطوير وتقديم المُغاير. أيضاً، وهذا ربما يُعد الأهمّ، الجرأة التي تسلّحت بها أفلامهم، بتناولهم المسكوت عنه، والمحظورات والمُحرّمات، الاجتماعية والسياسية والدينية، من دون الانزلاق إلى الميلودراما والمُباشرة والادّعاء والسطحية. كما يُلاحظ التمرّد على نمطيّة الأفكار والطرح والمعالجة. ينسحب هذا على صوغ الحبكة، وتطوّر خيوط السرد، وتصاعد الأحداث.

أخيراً، هناك جودة لافتة للغاية في الأداء التمثيلي، خاصة لممثلات أدّين أدوارهن بحِرفية وإقناع، رغم أنّ بعضهن لسن مُحترفات.

البداية مع "المُرهقون"، لليمني عمرو جمال، أول مشاركة يمنية في برنامج "بانوراما"، في "مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، في دورته الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023): عائلة يمنية تُكابد معيشة قاسية، وأمٌّ باتت على شفير الإنجاب، على خلفية الحرب والاضطرابات السياسية والاجتماعية. بهذا، طرحت قضية الإجهاض وعلاقتها بالدين والتحريم، في مجتمع مُتديّن ـ محافظ، وربط هذا بالوضعين المادي والمعيشي، وانسداد الأفق أمام أي بارقة أمل في المستقبل.

في الدورة نفسها للمهرجان نفسه (البانوراما الوثائقية)، عُرض "تحت سماء دمشق" للسوريين هبة خالد وطلال ديركي (ألمانيا) وعلي وجيه (سورية)، علماً أنّ خالد وديركي ممنوعان من الدخول إلى سورية: تعرّض نساء سوريات للعنف والتحرّش والاغتصاب والاستغلال الجنسي، وخوفهنّ من الصراخ ضد الظلم، ومن الانتقام والمطالبة بتحقيق العدالة لأنفسهنّ، عبر شاباتٍ يحاولن كسر هذا وفضحه، في مشروع مسرحي لهنّ.

في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان كانّ، شاركت السينما العربية بأفلامٍ طويلة وقصيرة، من 5 بلدان (المسابقة الرئيسية أولاً، وأقسام وبرامج موازية). المفاجأة حاصلةٌ بفضل مشاركة السودان والأردن، لأول مرّة في تاريخيهما، بروائيّين طويلين: "وداعاً جوليا" للسوداني محمد كردفاني (نظرة ما)، و"إن شاء الله ولد" للأردني أمجد الرشيدي (أسبوع النقاد).

في إطار سياسي اجتماعي إنساني، وفي قالب درامي شبه غنائي، تناول كردفاني بجرأة وتوازن وفنيّات (إنّه مخرج مُتمكّن من أدواته) قضية انفصال الجنوب والشمال في بلده، والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وسيطرة الدين على الحياة، والتفاوت الطبقي الفجّ، والأزمة الاقتصادية الطاحنة، وتداعيات كلّ هذا وأكثر على الحياة في السودان، في فترةٍ عصيبة جداً أدّت، بعد تراكمات استمرّت عقوداً، إلى توترات وقلاقل واضطرابات واشتباكات عنيفة ودموية لم تتوقّف، للأسف، حتى بعد إجراء الاستفتاء، وإقرار الانفصال. كما بيَّنَ كردفاني، في نظرته القريبة والعميقة والصادقة للمجتمع السوداني، كيف أنّه لا يزال تحت الرمال وميض نار. وهذا نراه الآن في السودان.

أمّا الرشيدي، فعاين ملامح معاناة المرأة العربية، لا الأردنية فقط، جرّاء عيشها في قيود مجتمع ذكوري قمعي، مُركّزاً على القهر الذي تتعرّض له المرأة عندما تفقد زوجها تحديداً، وتكون محطّ أطماع من حولها. والأطماع ليست جسدية، بل مادية تتعلّق بميراث وحقوق شرعية أساساً. كما بيَّنَ كيف أنّ القوانين تضطهد المرأة في العالم العربي، وإلى أي مدى تفرض المعتقدات المجتمعية والثقافية والدينية سيطرتها على حياة المرأة في بلادنا. اقترب الفيلم، بجرأة ملحوظة، من قضايا إشكالية خطرة وشائكة جداً، بتركيزه على موضوع الإرث، وتوزيع التركة، والحقوق المادية بين الزوجين.

بعد أكثر من نصف قرن، عادت السينما التونسية لتُنافس على "السعفة الذهبية" في "كانّ"، مع "بنات ألفة" لكوثر بن هنية، الذي يكشف كيف قرّرت رحمة وغفران الهروب من منزل والدتهما ألفة، والانضمام إلى تنظيم داعش بإرادتهما البحتة، لا غصباً ولا إكراهاً ولا اختطافاً. ينتمي الفيلم، الوثائقي الدرامي، إلى "الفيلم داخل الفيلم". اجتهدت بن هنية، التي لها وثائقيات قوية جداً وتجارب روائية متفاوتة، في المزج بين الروائي والوثائقي، إذْ يحضر صوتها وتُسمع توجيهاتها المتكرّرة من خلف الكاميرا. بينما تُشاهد الممثلة هند صبري في دور ألفة تارةً، وفي دور امرأةٍ تتعلّم من ألفة كيفية أداء دورها، وحفظ كلماتها وحواراتها، تارة أخرى. تقدم بن هنية قضية الإرهاب ومخاطره، ومشاكل المرأة، في توليفةٍ جريئة أسلوبياً، وذات حدّين.

في الوثائقي الدرامي "كذب أبيض، أو أم الأكاذيب"، تنطلق المغربية أسماء المُدير، الفائزة بجائزة أفضل إخراج في "نظرة ما" في الدورة الـ76 لمهرجان "كانّ"، من الذاتي إلى العام، من ماضيها القريب، وعلاقتها بأسرتها وطفولتها، وصُور طفولتها تحديداً، بعد ذهابها إلى منزل والديها في الدار البيضاء لمساعدتهما على الانتقال. إثر فرزها أغراضاً قديمة لها، تعثر على صُوَر فوتوغرافية تُعيدها إلى ذكرياتها، وعلاقتها بالماضي، وطفولتها. علاقة لا تتوقّف عندها كثيراً، إذْ سرعان ما تُنبش، بجرأة وفنية واحتراف، صفحات دموية مسكوت عنها في التاريخ القمعي لبلدها، إبّان ما يُعرف بـ"انتفاضة الخبز" عام 1981.

في القسم نفسه، شارك المغربي كمال الأزرق بأول فيلم روائي له، "كلاب الصيد" أو "عصابات". فيلم جريمة، يتّسم بقدرٍ كبير من التشويق والإثارة، وتوازن كافة عناصره، بدءاً من السيناريو الاحترافي، والبراعة الملحوظة في إدارة الممثلين، الذين يؤدّون أدوارهم بطبيعية وانسجام وصدق، وعنف لافت مطلوب، وغير مُقحم. ويُحسب للأزرق مهارته في تكثيف الأحداث في يومٍ واحد، معظمه ليلاً، وتقديمه رؤية بصرية قوية، بفنيّة وتميّز كبيرين. ورغم أنّ الحبكة لا تبدو جديدة كلّياً، ضرب الأزرق مثلاً رائعاً في أنّ الأمر ليس معقوداً دائماً على الحكاية، بقدر كيفية معالجة عناصرها وتقديمها.

في "نصف شهر المخرجين" (مهرجان كانّ)، برز "صحراء، أو الثلث الخالي" للممثل والمخرج المغربي فوزي بن السعيدي، اللافت للانتباه بأحداثه العبثية، وأجوائه شبه الكافكاوية، ونسجِه مواقف ومَشاهد مال أغلبها إلى الكوميديا السوداء قليلاً، وبرزت فيها جِدّة الأفكار والأفعال وصدقها. وذلك فيما يُمكن وصفه بـ"فيلم طريق"، أو "فيلم رحلة"، من دون جهد كبير أو افتعال، بل بقدر كبير من العمق. ورغم تجريديته أو عبثيته، تُشير سخريته المريرة إلى واقع مغربي قاسٍ ومُؤلم وفادح في ظلمه ولا إنسانيته، على مختلف المستويات.

في "آفاق"، في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، شارك التونسي محمد بن عطية بفيلمه الروائي الثالث "خلف الجبال". فيه، يُحاول تقديم مُغاير لتجاربه الاجتماعية النفسية السابقة، مع رسم رصين للشخصياتٍ، مُقدّماً المُفارق، نفسياً وواقعياً، والخروج من عباءة الواقعية، مُضحياً، لتقديم جديد ومُغاير، بعدم تقديم تبريرات مُقنعة، تُسوّغ أحداثاً كثيرة، أو دوافع الشخصية الرئيسية، المسكونة بفكرة تتملكّها وتُسيطر عليها: الطيران من المُرتفعات، ربما في استعارة إلى التحليق فوق مصير مُظلم، وواقع بائس يُصرّ على الإيقاع بالبشر في شراك لا فكاك منها.

في "أيام المُؤلفين"، في المهرجان نفسه، شارك "وراء الكواليس" للممثلة والمخرجة التونسية عفاف بن محمود والمغربي خليل بن كيران، في أول أفلامهما الروائية الطويلة: كواليس العلاقات الرابطة بين أفراد فرقة مسرحية. تجربة تُعيد إلى الأذهان رائعة "المُمثلون الجوالون" لليوناني ثيو أنجيلُبولوس، وإنْ على نحو غير ملحمي، وفي ابتعاد جليّ عن كلّ ما له علاقة بالتاريخ والسياسة والاجتماع. فالفيلم ينحو أكثر إلى الفني والنفسي والتجريبي الجمالي، بخلاف أي شيء آخر، في محاولة غير مسبوقة عربياً، وبجرأة تُحسب لهما. كان ينقص العمل على أكثر من جانب فني فيه، ليخرج الفيلم بمُستوى رفيع، أكثر فنية وإقناعاً وتشويقاً.

في التظاهرة نفسها، عُرض الوثائقي "باي باي طبريا" للجزائرية الفرنسية لينا سويلم. في جانب كبير منه، دفاع المرأة عن حريتها في مُجتمع ذكوري بامتياز، عبر أجيال نسائية مختلفة في العائلة نفسها، عائلة المخرجة، وتحديداً والدتها الممثلة الفلسطينية الفرنسية هيام عبّاس. هنا، رصدٌ لتطلّعاتها وإرادتها وشخصيتها القوية لتحقيق ذاتها، بخلط الذاتي ـ الشخصي بالعام، رغم عدم سهولة الخوض في الحياة الشخصية لوالدتها وفي خصوصياتها، وعرضها على الجمهور بصراحة وشفافية، آخذةً في الاعتبار أنّ الأم ليست شخصية عادية، بل مُمثلة معروفة، عربياً وعالمياً، ما زاد من صعوبة الأمر.

أخيراً، ولأول مرة في تاريخها السينمائي القصير نسبياً، شاركت المملكة العربية السعودية بـ3 أفلامٍ في أقسام مُختلفة للدورة الـ48 (7 ـ 17 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان تورونتو السينمائي الدولي": "هجان"، الروائي الثاني للمصري أبو بكر شوقي، وتدور أحداثه في إطار درامي مُشوّق ومُؤثّر، عن الارتباط الوجداني بين صبيّ شغوف بالإبل، وأحد الجِمال، ومواجهته صراعاً عميقاً من أجل الحرية، والوصول إلى هدفه بالربح في سباق هجن، وتحقيق أمنية شقيقه، والفوز بالتحدّي، وتجنّب المصير المحفوف بالأخطار. إنّها المرة الأولى التي نرى فيها مُعالجة لسباقات الهجن، المجهولة لكثيرين، بشكل فني واحترافي ملائم لشاشة السينما.

هناك أيضاً "ناقة"، لمشعل الجاسر: دراما إثارة وتشويق، يُمكن اعتبارها "فيلم طريق". شابة مُتمرّدة ورافضة وثائرة على العادات والتقاليد، رغم أنّها منتمية إلى عائلة شديد الصرامة. ذات مساء، تقطّعت بها السُبل في الصحراء، فباتت ترغب بشدّة في العودة إلى منزلها، خوفاً من عقاب والدها الصارم. قدَّمَ مشعل حكاية معهودة عن قهر المرأة وكبتها، وتمرّد الجيل الجديد، الباحث عن هوية وشخصية واستقلالية، بقدر كبير من التجريب والابتكار والتجديد الأسلوبي، والسرد غير الخطي، وكلّها غير معهودة كثيراً في الأفلام السعودية، ما أثار لغطاً كثيراً ضد الفيلم ومُخرجه.

أخيراً، يُعتبر "مندوب الليل"، لعلي الكلثمي، من أنضج التجارب السينمائية في السنوات الأخيرة في السعودية. دراما تشويقية عن شاب ثلاثينيّ، أعزب ومُضطرب، يهيم وحيداً ومهموماً كلّ ليلة في زحمة الرياض وشوارعها، لإيصال طلبات مأكل ومشرب، ويواجه مصاعب كثيرة، تدفعه إلى التخلّي عن مبادئه تحت وطأة الضغوط. يعكس الفيلم جزءاً كبيراً من الحياة اليومية السُفلية في الرياض، خاصة حياة الشباب، ويضرب بعمق في صميم المُجتمع، بجرأة كبيرة.

المساهمون