الإعلان المغربي: تسليع الصورة وارتباك الممارسة

الإعلان المغربي: تسليع الصورة وارتباك الممارسة

09 يناير 2022
إعلان لمناسبة عيد الأضحى في الرباط عام 2009 (عبد الحق سنّا/فرانس برس)
+ الخط -

منذ الثمانينيات، غدت الصورة الإشهارية (الإعلانيّة) في المغرب تحتل مكانة بارزة داخل النسيج البصري، ليس لأنّها تُعدّ اليوم أكثر أنماط الصورة الفنّية اختراقاً وذيوعاً داخل الوسائط البصريّة العاصرة فحسب، بل بحكم التأثير الذي يتركه الإعلان في نفوس الاجتماع العربي.

فهي قادرة على أنْ تغدو سلاحاً فتّاكاً في يد المؤسّسات السياسيّة الرسميّة، لتضليل الرأي العام ودغدغة مَشاعره بسيلٍ من الصور الإشهارية التنميطية، رغبة منها في جعله يدخل في دوّامةٍ من الفراغ الروحي، إذ يغدو الجسد أشبه ببالونةٍ تتقاذفها رياح السياسة والسُلطة، وهو ما يُفسّر أسباب تربّع المؤسّسات المغربيّة الرسميّة على إنتاج الصورة الإعلانيّة واحتكارها إلى حدّ كبيرٍ، بما يجعلها الكيّان "الحقيقي" الذي يصنع المُحتوى البصريّ، من دون أيّ رقيبٍ خاصّ يعمل على مساءلة هذا المنتوج الإعلامي والتدقيق في ماهيته وخطابه وما يختزن في جسده من رسائل بصريّة ترفيهية مُستهلكة.

وفي الوقت الذي راكم فيه الفكر الفرنسي المعاصر أبحاثاً هائلة تتعلّق بطرق وآليات بتفكيك الصناعة الإعلانيّة، ما يزال المغرب واقفاً عند عتبة الصورة بشكلها العام، تارة وهو يكنّ العداء لها تاريخياً عبر المنع الذي طاولها منذ المرحلة الوسيطية، وتارة أخرى بسبب عدم قدرة هذا الفنّ على صياغة مشروعٍ بصريّ يتعلّق بالإشهار، بوصفه خطاباً بصرياً له طرقه وقوانينه وسياسته، بعيداً عن منطق "القبيلة" حيث تُصبح عملية توزيع مَشاريعه خاضعة للمنطق العائلي، بطريقة تُهمش فيها كلّ الوكالات الصغيرة التي تحلم بمراكمة منتوج غزير يصل صداه إلى المُشاهد المغربي وتجترح عبره صناعة إشهارية مُغايرة في طرق إنتاجها ووسائلها.

هذه الشركات الكبرى المُحتكرة لعملية الإنتاج لم تعمل سوى على تأجيج التفاهة ومُراكمة الارتباك وعنف الممارسة وسطحيتها وتحويل كل شيء إلى سلعة، إذ إنّ المهمّ في الخطاب الإعلاني ــ بالنسبة لهم ــ فقط وصوله إلى شريحة أكبر من المجتمع، في إطار نوعٍ من التسليع والتسويق والاستثمار، من دون أيّ ذرة إبداعٍ تُميّز علامتهم التجارية وتضمن لهم سيرورة دائمة في وجدان المُشاهد المغربي. وبما أنّ الصورة الإعلانيّة تتميّز في كونها تقتحم بيوت الناس من دون إذنٍ منهم، فهي تخترق لاوعي مجتمعاتهم، لتُحوّل أفكار الناس وأحاسيسهم ومَشاعرهم إلى سلعةٍ للاستثمار.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

إلا أنّ احتكار الدولة والمؤسّسات الإشهارية الخاصّة التقليدية يُضمر في طيّاته خطاباً احتجاجياً حول ما تستطيعه بعض الشركات والوكالات الصغيرة، التي درس أفرادها في فرنسا وبلجيكا وأميركا، من قُدرة على تطوير هذا القطاع وإدخاله في صلب مشروع الحداثة البصريّة، كما تُبلورها اليوم بعض التجارب الفنّية. غير أنّ الدولة، وهي المُتستّر الأكبر على هذه اللوبيات الكبيرة عبر سن قوانينٍ في صالحها، تزيد من تفاقم هذا الواقع وتكريس هذه الشركات رغم هشاشة منتوجها البصري وعدم قدرتها على مُسايرة المُتخيّل المغربي ومُفارقات واقعه.

لا يوجد شيء اسمه صناعة الإعلان في المغرب، بل ركام هائل من الصور اللافنّية الخاضعة لمنطق التسليع والتقطيع وإعادة تدويرها داخل المونتاج، حتّى تُباع بآلاف الملايين للدولة أو غيرها من المؤسّسات العامّة والخاصّة.

ففي رمضان من كل سنة، بينما الناس غارقة في مُشاهدة المسلسلات التلفزيونية، يكون سوق الإعلان في المغرب في حالة حربٍ شرسة بين هذه الشركات الكبرى، رغبة منها في الحصول على أكبر عددٍ ممكن المَشاريع الإشهارية. وبما أنّ أغلب هذه الشركات مُوزّعة داخل عددٍ من المدن المغربيّة، فإنّها تحظَى بنصيب الأسد من كعكة الإشهار، عاملة على استقطاب أهم وجوه ونجوم الترفيه في المغرب من السينما والمسرح والغناء وصنّاع المُحتوى. إذ على الرغم من هشاشة التعويض بالنّظر إلى حجم مبيعات الإشهار من لدن الشركة، فإنّ الوضع الاجتماعي للفنّان لا يجعله في موقع قوّة حتّى يُساوم عن عمله.

لكنْ في مقابل ذلك، يجد البعض في رمضان فرصة كبيرة لتكثيف يوميّات عمله داخل التلفزيون المغربي من إعلاناتٍ ومسلسلات وسيتكومات هزلية بأيّ ثمنٍ كان. فالواقع في نظره مُضطربٌ، والبكاء على الأطلال لا يجدي نفعاً. غير أنّ واقع الشركات الكبرى أجمل، وغالباً ما يدخل بعض الأفراد داخل مؤسّسات تلفزيونية رسمية، في لعبة تواطؤ مع هذه الشركات للحصول على أضخم المَشاريع الإشهارية مثل مهرجان موازين أو تمرير بعض الوصلات الإعلانيّة في لحظاتٍ مُعيّنة، خاصّة لحظة الإفطار، حين يكون جميع المغاربة أمام شاشاتهم الصغيرة. لذلك يستغرب بعضهم قلة بعض الإشهارات وكثرتها في أوقاتٍ مُعيّنة من اليوم الواحد.

المساهمون