استعادة "5 كاميرات محطّمة": هلعٌ إسرائيلي من الصورة

استعادة "5 كاميرات محطّمة": هلعٌ إسرائيلي من الصورة

11 ديسمبر 2023
عماد بُرناط (يسار الصورة) وغي دَفيدي في "مهرجان ساندانس 2012" (جوناثان ليبسن/Getty)
+ الخط -

 

أسبابٌ عدّة تدفع إلى استعادة "5 كاميرات محطّمة" (2011)، للفلسطيني عماد بُرناط والإسرائيلي غي دَفيدي: التصوير الفوتوغرافي والهلع المزمن للمؤسّسة الرسمية الإسرائيلية منه، وهذا حاصلٌ، مجدّداً، في حربٍ إسرائيلية جديدة ضد قطاع غزّة والضفة الغربية، منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)؛ تمكّن بصري، بسيط وعميق وشفّاف، من تحويل الكاميرا إلى شاهدٍ على الذاتي ـ الشخصي (الحياة العائلية لبُرناط) وربطه (الشاهد)، إنسانياً وواقعياً وحياتياً وفنّياً ـ جمالياً، بالحاصل في الجماعة؛ عرض جديد لحلقة من سلسلة تلفزيونية أميركية، مُنتجة (السلسلة) بين عامي 2012 و2019، يَرِد فيها "كلامٌ" عن الفيلم.

لكنّ "5 كاميرات محطّمة" (ترشيح رسمي لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي) غير محتاجٍ إلى سببٍ للكتابة عنه، أو لاستعادته، أو لعرضه في حربِ إبادةٍ، أو من دون مناسبة. فأهميته السينمائية متساوية واشتغاله الحيوي في تفكيك وقائع عيشٍ يومي في احتلالٍ إسرائيلي، يُتقن آليات تعذيب وقهر وإذلال، ظنّاً منه أنّ هذا كلّه كافٍ لإحباط شعبٍ (ربما الإحباط فرديّ، أحياناً، وهذا طبيعي)، ودفعه إلى خروجٍ من أرض وتاريخ واجتماع. والربط بين الذاتي ـ الشخصي (إنجاب بُرناط وزوجته أطفالاً يترافق وشراؤه كاميرات تصوير فوتوغرافي) والعام (صدامات مع المحتلّ في بلدته "بلعين"، تصويره مواجهات حاصلة مع المحتلّ، خاصة تلك التي يخوضها صديقان له) منبثقٌ من حساسية بصرية في كشف يوميات عيشٍ، يصعب الفصل فيها بين الذاتي والعام.

عماد بُرناط مُصوّر عصامي فلسطيني. مع ولادة ابنه الرابع، عام 2005، يشتري أول كاميرا، في وقتٍ يشهد بداية تشييد جدار فاصل في بلدته (12 كلم. غربي رام الله)، ما يؤدّي إلى صدامات مع المحتلّ. تصوير الداخل (يوميات عائلته) يترافق وتصوير الحاصل في الخارج. الاعتداءات الإسرائيلية متكرّرة، ولها أشكال عدّة: اعتقالات يومية، هجمات عنيفة، جرافات تقتلع أشجار الزيتون، خسائر في الأرواح البشرية، غارات ليلية على البلدة تخيف عائلته. وأيضاً: إطلاق الرصاص على أصدقاء له وإخوة، وعليه هو نفسه، واعتقال آخرين.

هذا كافٍ لإثارة غضبٍ وعنفٍ ماديّ إضافي ضده، ما يُسفر عن تحطيم تلك الكاميرا الأولى. غير أنّ مُثابراً كعماد بُرناط لن يخشى ولن يتراجع ولن يهدأ. كاميرا تلو أخرى، وتحطيم تلو آخر، والصُور محفوظة، والحاجة إلى جعلها "سيرة بصرية" تُلحّ عليه، فيتواصل مع غي دَفيدي لجعل المادة فيلماً.

مسائل عدّة يطرحها "5 كاميرات محطّمة"، وعرضه الآنيّ في منصّات أو لقاءات مُلحّ، لاقترابه من أحد أخطر الأفعال الجُرمية لإسرائيل: الفتك الوحشيّ الإسرائيلي بالصحافة والإعلام. فالقتل مُتعمَّد لصحافيين وإعلاميين فلسطينيين في الحرب الجديدة، إذْ يبلغ عدد الشهداء 75 زميلاً وزميلة لغاية 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، إلى مَفقودين اثنين، وإصابة 80 بجروح مختلفة، وقصف مقصود لمنازل عائلات 60 زميلاً وزميلة، ما يؤدّي إلى مقتل عشرات الأفراد في كلّ قصفٍ. هذا من دون تناسي 44 صحافياً فلسطينياً مُعتقلاً في سجون الاحتلال، لغاية 7 ديسمبر/كانون الأول 2023.

لن تكون هذه مجرّد أرقام. الوحش الإسرائيلي يريد حجب الصُور التي تُدينه. قتل صحافي يترافق غالباً مع قتل أفرادٍ كثيرين من عائلته ومحيطين بها. هذا مقصود. هذا غير محصورٍ بفترة زمنية من دون أخرى، لكنّ الفترة هذه أعنف. ما يُقدّمه بُرناط عائدٌ إلى عام 2005. حرب 2023 أكثر وحشية في التعامل مع كاميرا، ومع صحافي ـ إعلامي، من دون تناسي وحشية التعامل مع فلسطينيي قطاع غزّة وفلسطينياته أيضاً، ومع أبناء فلسطين وبناتها جميعاً. مشاهدة "5 كاميرات محطّمة"، في لحظةِ انقضاض إسرائيلي على كلّ ما ومن له علاقة بصورة، فوتوغرافية أو تلفزيونية، مُلحّة، فإلى "متعةٍ" منبثقة منها، رغم قسوة واقع وحياة، ومع القسوة جمال مواجهة وتحدّ، هناك خوف وغضب إسرائيليان من صورة وكاميرا.

 

 

عشية انتهاء عام 2011، يُرشَّح "5 كاميرات محطّمة"، رسمياً، لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي. قبل أيامٍ قليلة على حفلة توزيع جوائز النسخة الـ85، في 24 فبراير/شباط 2013، يُمنع بُرناط من دخول الأراضي الأميركية. إذْ كيف يُعقل لفلسطيني أنْ يُرشَّح رسمياً لجائزة سينمائية؟ بل كيف يُسمح أصلاً لفيلمٍ أنْ يُرشَّح رسمياً باسم فلسطين؟ تدخّلات عدّة غير مجدية، والفيلم غير فائز، والترشيح الرسمي سمة ترافقه دائماً.

لكنْ، هناك سابقٌ على هذا، فالفيلم يحضر في حلقة من سلسلة تلفزيونية أميركية بعنوان Veep (نائبة الرئيس)، لمبتكرها أرماندو لانوتشي (إنتاج HBO، في 65 حلقة، 26 دقيقة/الحلقة، 22 أبريل/نيسان 2012 ـ 12 مايو/أيار 2019). إنّه عن سيلينا ماير (جوليا لويس ـ درايفوس)، التي تُصبح نائبة للرئيس الأميركي بعد خسارتها الانتخابات التمهيدية لحزبها في الانتخابات الرئاسية. الحلقة المذكورة ثاني حلقات الموسم الثاني، وعنوانها "إشارات". تحلّ المصيبة عندما تُنشَر، في مدوّنات مختلفة، مقالة لابنة سيلينا، الشابة كاترين (سارة ساثرلاند)، عن "5 كاميرات محطّمة"، مكتوبة أساساً لفصل دراسي. المصيبة متمثّلةٌ بـ"إشادة" المقالة "بالتصوير المُتقن للعدوان الإسرائيلي القاسي/الوحشي" الحاصل في الفيلم، الذي يتناول "المقاومة الفلسطينية اللاعنفية للاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية".

إنجاز الحلقة وبثّها حاصلان في مناخ تلك الفترة نفسها لـ"أوسكار"، ومنع بُرناط من الدخول إلى أميركا. الأهمّ كامنٌ في كيفية التعامل السياسي الرسمي مع هذا المأزق، إذْ يُصوَّر الارتباك والقلق في فريق عمل سيلينا ماير، وبدء تحضير بيانٍ يُقلِّل من الفضيحة والخسائر، كما في البيت الأبيض، إذْ يقول كَنْت دَفيسن (غاري كول)، أحد كبار الاستراتيجيين في البيت الأبيض: "لو أننا في الستينيات، لأمكننا جعل الحرس الوطني يُطلق النار على الابنة".

في الحلقة مسائل أخرى، لكنْ على سيلينا إقناع ابنتها بإزالة المقالة. هذا يتطلّب مفاوضات، فكاترين عنيدة، وحبيبها إيرانيّ، ما يُفاقِم المشكلة، أقلّه بالنسبة إلى نائبة الرئيس، التي تقول مراراً إنّها "غير عنصرية". مفاوضات توحي أنّ الابنة لن تتراجع، لكنّ التسويات السياسية غالبةٌ، حتى في عائلة واحدة.

فيلمٌ مهمّ، ومشاهدته أهمّ. اشتغاله البصريّ متساوٍ وحيوية نصّ وحكاية. الحلقة التلفزيونية، رغم ميلٍ إلى سخريةٍ دائمة من نائبة الرئيس نفسها، تكشف شيئاً من آلية التعامل الرسمي الأميركي مع مسائل كهذه، وإنْ تكن معروفة، غالباً.

المساهمون