أفلامٌ توثِّق سينمائياً حالة وانفعالاً

أفلامٌ توثِّق سينمائياً حالة وانفعالاً

01 اغسطس 2022
مرفأ بيروت: انفجار مزدوج واللاحق به أعنف وأقسى وأبشع (فاضل عيتاني/Getty-NurPhoto)
+ الخط -

 

أيامٌ قليلة تفصل عن الذكرى الثانية للانفجار المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). ذكرى ثانية لجريمةٍ لن تكون أقسى وأخطر من جرائم مُرتكبة بعدها، ترتبط بها مباشرة. الإمعان في محاربة قاضٍ (طارق بيطار)، يريد عدالةً بكشف حقائق الانفجار، أخطر من الجريمة وأصعب، وهذا لن يُقلِّل أبداً من بشاعة الفعل الجُرمي، وآثاره المنفلشة، إلى الآن، في نفوسٍ وأرواح وأمكنة وعمارة وسلوك وعيشٍ. مواجهة أهالي الضحايا، من سلطة يقودها نظامٌ يُسيطر عليه مَرجعٌ واحد، يمتلك سلاحاً ومالاً وأيديولوجيا دينية، أعنف من موت مدنيين/مدنيات، وجرح آخرين/أخريات، وبعض الجرحى يرحل بعد أشهرٍ طويلة من الجريمة، التي تبقى إحدى أخطر الجرائم المُرتكبة منذ نشوء "دولة لبنان الكبير" (1 سبتمبر/أيلول 1920)، على الأقلّ.

هذا قاسٍ ومؤلم. ضحايا الانفجار المزدوج غائبون في موتٍ وقبرٍ ورحيل. الجرحى يحملون ندوباً وآلاماً. الناجون/الناجيات، من موت أو جراح، لا تزال نفوسهم ممزّقة، ونومهم مضطرباً، وأوجاع أرواحهم لا دواء لها ولا علاج. ثقافة وفنّ ينهلان من الجريمة وضحاياها، لكنّ بعض نتاجاتهما مُسيءٌ إلى الجريمة وضحاياها، وإلى الناجين/الناجيات منها، إنْ يصحّ قولٌ بأنّ هناك ناجين/ناجيات فعلياً. ثقافة وفنّ يعتادان استغلال حدثٍ أو فعلٍ أو شيءٍ أو فردٍ، من دون إنتاجِ مُقابِلٍ يمنح موضوع/مادة الاستغلال حقّه الفعلي، ثقافياً وفنياً وفكرياً وجمالياً، وتوثيقاً وتأمّلاً وفائدة.

 

 

لكنّ بعض الثقافة والفنون ينبثقُ من الجرح والألم، ويُنجز ما يستحق مُشاهدة واستماعاً وقراءةً، وإنْ يغلب انفعالٌ وحماسةٌ على نتاجات من دون أخرى، وهذا عاديّ في لحظةٍ، تحتفل بعد أيام قليلة بالذكرى الثانية على ارتكاب الجريمة. بعضٌ آخر من الثقافة والفنّ يخترق المألوف، ويتفوّق على المعتاد، رغم أنّ الجرح عميقٌ، والألم حاضرٌ، والرؤية شبه مغبّشةٍ. سينمائيون/سينمائيات يُتقنون كيفية تحويل الألم والفعل والانفعال إلى متتاليات بصرية، تجمع بين بهاء صورة، وجمال اشتغال، ومُتعة مُشاهدة، رغم قسوة المُصوَّر وعنفه وتأثيراته الحادّة في يوميات العيش في بلد الانهيارات والموت والخراب.

عشية الذكرى الثانية للانفجار المزدوج في مرفأ بيروت، تُستعاد أفلامٌ قليلة تمتلك براعة ابتكار سينمائيّ لواقع مؤلم، وتصنع من الجرح صُوراً تقول إنّ السينما قادرةٌ، دائماً، على توثيق لحظة بلغةٍ بصرية وفنية مُتقَنة للغاية.

من هذه الأفلام، "أخطبوط" (2021) لكريم قاسم، المكتفي بصُوَرٍ متلاحقة لأناسٍ وأمكنةٍ وغبارٍ وملامح ولحظاتٍ، يولّفها بسلاسةٍ تُبرز، سينمائياً ومن دون أي كلامٍ، عمق الألم وحجم الدمار وشدّة القهر، في محيط المرفأ وفضائه الأوسع، وإنْ بشكلٍ غير مباشر. "إعادة تدمير" (2021) لسيمون الهبر يبدأ من لحظة الانفجار، مستعيداً سيرة مدينة ومرفأ وبيئة، وحكايات إعمار وإعادة إعمار، مُفكّكا تاريخاً من إعمار يُشبه التدمير.

فيلمان (وغيرهما أيضاً) يُشَاهَدان مراراً، لما فيهما من اشتغالاتٍ، سينمائية وتاريخية وإنسانية، عن مدينةٍ يُفترض بها أنْ تُشعِل النار في نظامٍ قاتل وفاسد وناهبٍ، في الذكرى الثانية للانفجار المزدوج في مرفأ بيروت؛ بل في كلّ لحظةٍ.

المساهمون