عن شارع الحمرا البيروتي وخرابه: أنشطةٌ بائسةٌ والموت كبير

عن شارع الحمرا البيروتي وخرابه: أنشطةٌ بائسةٌ والموت كبير

13 يوليو 2022
شارع الحمرا: فراغٌ ولا شيء غير الفراغ (جوزف عيد/فرانس برس)
+ الخط -

يُغلقون شارع الحمرا (بيروت) بين حينٍ وآخر، محوّلينه إلى سوقٍ شعبية، ظنّاً منهم أنّ سوقاً كهذه، بما فيها من حركةٍ وصخبٍ، كافيةٌ لإنهاض الشارع من خرابه. يعتقدون أنّ ضجيجاً كهذا كفيلٌ ببثّ حياةٍ في شارعٍ يزداد فيه الانهيار إلى حدّ الموت؛ وفي مدينةٍ معقودةٍ على فراغ وحشيّ؛ وفي بلدٍ منهوبٍ وعَفِن ومقتولٍ، وناسُه خانعون كمن يتلذّذ بالمذلّة والإخضاع، وقلّة منهم فقط تُدرك استحالة قيام أي حراكٍ شعبي مدني سلمي جديد، فالعنف المُمَارَس على "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) ضربةٌ قاضية ومٌخيفة، والانتخابات النيابية (15 مايو/أيار 2022) فرصةٌ لردّ، يبدو أنّه خَفِرٌ إلى حدّ الانمحاء.

إغلاق شارعٍ، يُفترض به أن يكون أساسياً في مدينةٍ، يُفترض بها أن تكون حيّزاً لحياةٍ لائقة ومُريحة ومُنتِجة، غير قادرٍ على إنهاضه من كبوته، لتناقضه مع أحوال بلدٍ واجتماع يعيشان موتاً سريرياً بسبب أزمة اقتصادية خانقة، وانهيارات اجتماعية مخيفة، وفوضى عنف وضياع مُرعِبَين. أبسطُ مفردات العيش الطبيعي مفقودة: لا كهرباء (أسعار المولّدات مرتفعةٌ للغاية) ولا مياه (باستثناء تلك المنهوبة من المؤسّسة الرسمية، والمُباعة بأسعار غير مقبولة) ولا أدوية ولا غذاء ولا طبابة، بالإضافة إلى عماء رسميّ في مسألتي التعليم، وكورونا ومتحوّلاته. إذ كيف يُمكن إنهاض شارعٍ من موته، وإعادة نبض الحياة إليه، وإلى أزقة متفرّعة منه، في غياب هذه المفردات الأساسية؟

العملة اللبنانية في قاع القاع. الغلاء فاحشٌ، والعنف الفردي أداة قتل وتهميش وذكورية. قبائل تتناحر لأسبابٍ توصف بالفردية، وهذا غير صحيح دائماً؛ والسلطة مُغيّبة لمصلحة نظامٍ يبطش بالبلد وناسه، والناس نيام. شارعٌ له تاريخ ـ يحتاجان (الشارع والتاريخ) إلى قراءةٍ، تتحرّر من وطنية باهتة وانفعالٍ مؤذٍ ـ لكنّه، منذ اغتيال رفيق الحريري، الرئيس السابق للحكومة اللبنانية (14 فبراير/شباط 2005)، على الأقلّ، يتراجع كموقع ومكانةٍ، من دون تناسي جهد مبذول، زمن حكم الحريري الأب، في تهميش الشارع لمصلحة وسط المدينة و"سوليدير".

الآن، يظنّون أنّ سوقاً شعبية، مع بهتان معناها وفراغ اشتغالها وغرقها في ضجيج منفِّر، ومع ما تُثيره من تلوّث بصري ـ سمعي، ستُخرج الشارع من نفقه المعتم، فتُضاء له أنوارٌ لوقتٍ قليل، قبل أن يغرق الشارع والأزقّة المتفرّعة منه في عتمةٍ، يُسبِّبها فساد نظامٍ حاكم، وخنوع شعبٍ أمام فسادٍ كهذا.

الشارع يفقد مقوّمات عيشه منذ سنين عدّة. لكنّ انكشاف حجم النهب المنظّم لأقطاب النظام الحاكم يُعرّي خراب الشارع والمدينة والبلد، ويُعرّي انهيار الناس، وبؤس يومياتهم، وشقاء تفكيرهم وتعاملهم مع الآخرين، ومع النظام الحاكم. الشارع فاقدٌ مقوّمات عيشه، مع إغلاق مُتدرّج لصالاته السينمائية، ولمكتباته المختلفة (مكتبة أنطوان وحدها صامدة في الشارع الرئيسي، ومكتبات قليلة جداً منتشرةٌ في أزقّة موازية له)، ولمقاهيه التي يُفترض بها ألاّ تكون حكراً على تلك الموزّعة على أرصفته، والمليئة بكلّ ما لا علاقة له بمفهوم المقهى الشرقيّ، ومناخه وحاجاته وهويته. أكشاك الصحف والمجلات والكتب مختفية، كاختفاء صحفٍ ومجلاّت، باستثناء قلّة تُكافح من أجل بقاءٍ، تُدرك (القلّة) أنّه مؤقّت. محلاّت تجارية غارقةٌ في عتمةٍ، كئيبةٍ في النهار وقاتلةٍ في أول المساء، العابق بحرارة مرتفعة، ورطوبة يبقى ثقلها أخفّ من الانهيار غير المكتمل.

لا أرقام يُصدرها منظّمو هذه السوق الشعبية تتعلّق بأرباح ومبيعات، ليُدرك المرء مدى "نجاح" المهمّة المنوطة بها. لا اشتغال فعلياً على تمكين السوق من إحياء النبض المطلوب في شارع، يحتاج ـ كي يولد مجدّداً ـ إلى أكثر من سوقٍ شعبية، وإلى أكثر من تفكيرٍ باهت بسوقٍ شعبية. فالشارع، كما المدينة والبلد برمّته، يحتاج إلى المقوّمات الأساسية لحياةٍ طبيعية، وإلاّ فلا معنى لأي شيءٍ يحصل فيه، ولأي نيّة صافية أو حسنة، إن وجدت نيّة صافية أو حسنة في تنظيم سوقٍ، مُزعجة ومؤذية بسبب التلوّث السمعي ـ البصري الذي ينشره طوال يوم أحدٍ حارٍ وجاف (آخر سوقٍ مُقامة في 10 يوليو/تموز 2022).

إنهاضُ الشارع من موته، كما المدينة والبلد، يحتاج إلى دولة لا إلى نظامٍ حاكم، وإلى وطن لا إلى تجمّع سلطوي، وإلى تخطيطٍ اقتصادي اجتماعي تربوي ثقافي متكامل، لا إلى أنشطة يُنتجها تفكيرٌ عفنٌ ومدّع وعاجز عن إنتاج المُفيد.

الثقافة والفن حاجتان أساسيتان لإنهاض شارعٍ ومدينة وبلدٍ من موتٍ وخراب وتوهان وتمزّق. لكنّهما غير كافيين وحدهما، فالتجاريّ والاقتصادي والتربوي والسياحي مسائل مهمّة أيضاً، يُمكن لجمعها معاً أن يُنتج مُفيداً في إنهاضِ المرغوب في إنهاضه، وفي إعادته إلى حياةٍ مسلوبة منه منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، والبداية الغامضة لإعادة إعمار مشبوه، وما بينهما من قرارات خطرة، أسوأها "قانون العفو العام" (26 أغسطس/آب 1990)، المُسهِّل لتحكّم أمراء الحرب والطوائف ببلدٍ خارجٍ لتوّه من حربٍ أهلية؛ ومشروع إعادة الإعمار، بإشراف "الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت ـ سوليدير"، المؤسَّسة في 5 مايو/أيار 1994.

إغلاق شارع من أجل سوق شعبية، غير معلوم مدى تمكّنها من تحقيق أرباح أو إجراء مبيعات على الأقل، يُزيد الخراب خراباً، ويحول دون تمكّن الشارع من تأهيل ذاته، واستعادة مقوّمات عيشه السليم. فالتأهيل والاستعادة يتطلّبان خططاً علمية، لا شعارات انفعالية، والخطط هذه ممنوعة، لأنّ النظام الحاكم مشغولٌ بأمور كثيرة، رغم أنّ المطلوب واحد، ذاك الذي لن يهتمّ به أبداً نظامٌ حاكمٌ كهذا. أما النشاطات الفنية، الحاصلة بين حينٍ وآخر في "مسرح المدينة" و"مترو المدينة" و"مكتبة ومقهى برزخ" (شارع الحمرا نفسه)، فتبقى مجرّد تقليدٍ يُصرّ عليه أفرادٌ قليلون، رغم أنّ عدد متابعيها ثابتٌ، فالمهتمّون هم أيضاً قليلون، وهم أنفسهم ينتقلون من مكانٍ إلى آخر لمتابعة القليل المعروض أمامهم ولهم، وليس كلّ القليل جميلُ ومهمّ ومُفيد.

المساهمون