"متجرٌ صغير": سردٌ سينمائيٌّ مُبدع

"متجرٌ صغير": سردٌ سينمائيٌّ مُبدع

27 ابريل 2022
"متجر صغير": استبدادٌ حديثٌ ومصالح سلطوية دائمة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

"عبيد جوليانوفو"، اسمٌ أُطلق على دعوى قضائية، تقدّمت بها نساء كازاخستانيات وأُوزبكستانيات أمام المحكمة الأوروبية، عام 2016، تضمّنت تهماً ضد أصحاب متاجر في منطقة جوليانوفو، الواقعة على أطراف مدينة موسكو، باغتصابهنّ في المتاجر التي عملن فيها، بين عامي 2004 و2007، في ظروفٍ قاهرة، إذْ كنّ يشتغلن ليلاً نهاراً، مقابل راتبٍ هزيل، ويتعرّضن للضرب المبرح والإهانة من أصحاب المتاجر، لأيّ خطأ بسيط يرتكبنه في العمل الشاق.

مع بشاعة كل ما تعرّضن له، لم تحاسِب السلطات الروسية من كانوا سبباً للفعل الجُرمي. هذا التوصيف الوارد في القضية يتناوله المخرج الأوزبكي ميخائيل بورودين (1987) كما هو تقريباً، ليكتب سيناريو ـ حكاية فيلمه "متجر صغير" (2022)، أو "منتجات 24"، كما في النصّ الروسي.

واقعية أيّ حكاية، مهما بلغت من القوّة والقدرة على الشحن العاطفي، لا تكفي لصنع فيلمٍ جيّد منها، بل إنّها تُصعِّب، أحياناً كثيرة مُهمّة المتصدّي لنقلها روائياً إلى السينما. تطابقها مع الواقع يُقيّد، غالباً، المخيال السينمائي، وفي هذه الحالة، لا بُدّ من البحث عن أساليب سرد بصري، قادرة على تحييد الواقعية، وتغليب الخيالي عليها. هذا اشتغل عليه بورودين، بمستويين متوازيين: الأول، أراد به جعل قصّة العاملات الأوزبكستانيات في متجر صغير في موسكو مجرّد خلفية، يمكن التحرّك أمامها بحرية، والخروج منها إلى فضاءات أبعد وأوسع. الثاني يستنبط من وجودها بحثاً في ظاهرة العمالة الوافدة من جمهوريات انضمّت إلى الاتحاد الروسي بعد نهاية التجربة السوفييتية، وظلّت عاجزة عن مواكبة الانتقال الرأسمالي السريع في العاصمة موسكو وأطرافها.

مشهدُ عقد قران العاملة مُخابات (زخارا سانزيسباي) إلى عامل معها في المتجر نفسه يفتح البابَ لرؤية ما يحدث فيه. سطوة مالكته، زانا (لودميلا فاسيليفا)، طاغيةٌ. هي من ترتّب عملية الزواج، وتباركه بصوت ثقيل، يختلط بصوت مأذون شرعي، يتلو آيات قرآنية، ويعلن مباركته عقد زواج، يلتئم في غرفة صغيرة، تقع في نهاية المتجر، ويتكدّس فوق أرضيّتها عمّالٌ نائمون، وعلى جدرانها تتكئ أكياس وبضائع.

اللون الأخضر الفاقع يسود المكان، والإضاءة نيونية برّاقة في الواجهة. يُحيل النصُّ السينمائي المتجرَ إلى معبر لنماذج بشرية، يتوافق سلوكها الفظّ مع سلوك رأسمالي مشوَّه، مثل زانا. صلتها برجال المؤسّسات الحكومية والمراقبين الصحّيين ورجال الشرطة يُعفيها من كل مساءلة. يتستّرون على مخالفاتها، وتسكت على اغتصابهم العاملات في متجرها. تُعاقب بقسوة كلّ من يفكّر بالتخلّص من قبضتها. مشهد دقّ مسمار في قدم عاملة، حاولت الهروب، يلخّص عبودية روسية جديدة، تُنقَل إلى الشاشة باشتغالٍ سينمائي باهر، ومَشاهد فيها من الخيال ما يكفي لابتعادها مسافات ضوئية عن العبارات القانونية الباردة، الواردة في تقرير "عبيد جوليانوفو".

 

 

المُحقَّق في المستوى الأول، من معالجة الحكاية الواقعية، تسوده سوداوية مُعبَّر عنها بصرياً بعتمة ضوء، يملأ المكان الضيق. الكاميرا (تصوير لافت في جودته لإيكاترينا سمولينا) تُداري ضيق مجال حركتها فيه باختيار زوايا تصوير صعبة، وبوضع العدسات المناسبة لإنجاز مَشاهد سينمائية، تُفكّك خلفية الحكاية الواقعية، وتتوافق مع "خيال" توّاق إلى التحرّر من العبودية وآلامها. تُظهِر إحداها منها زانا وهي تمتطي حماراً في متجرها، بنظراتٍ متوعّدة، تريد بها إخافة كلّ من يفكّر بالهروب منها.

بهروب مُخابات من دون طفلها، ووصولها إلى قريتها في أوزبكستان، تتفتّح ألوان "متجر صغير"، الذي يتخلّص بها من عتمة ثقيلة لازمت فصوله الأولى. الضوء المقبل من حقول القطن، التي تعمل فيها، يغمر عدسات الكاميرا الذاهبة إلى التقاط كلّ البهاء المصاحب لها. الطبيعة الجميلة لا تعكس جمالاً حياتياً، بالضرورة. هناك عتمة أخرى تسود جمهوريات آسيوية، لم يصلها من رأسمالية موسكو سوى فتاتها. تُدرك المرأة، الهاربة من العبودية، استحالة التوافق مع مكانٍ لا يقلّ بؤساً عن ذاك الذي كانت فيه. والدتها مريضة، تعجز عن دفع ثمن علاجها. الأجور قليلة، والمدن لا روح فيها. لا أمل لها في موطنها لاستعادة ولدها من رجلٍ، لا تفصح إنْ كان هو والده حقاً، أم نتاج اغتصاب متكرّر، مسكوت عنه. أسئلة وحيرة تلاحقها، كما يُلاحق نساءً أخريات مثلها هاجسُ التخلّص من فقر طشقند، بالذهاب إلى موسكو، ليُعدْن بذلك الدورة العبودية التي مرّت هي بها.

لا أفراح في تقرير "عبيد جوليانونو"، ولا مسرّات في فيلم "متجر صغير". بكلّ الخيال والجمال اللذين فيه، لا يُعاكس الفيلم تقريراً سَطّر وقائع، ووثّق عذابات عاملات وافدات، أخذها مخرج بارع، وجعلها خلفية مُنجز سينمائي، اشتغالاته يشعّ منها ضياء الإبداع، المُجسّد في مشهد ختامي، يظهر فيه المتجر مُنقلعاً بجذوره من الأرض، إلى فراغٍ كونيّ فسيح.

المساهمون