"لم أرَ شيئاً، رأيتُ كلّ شيء": حين تصبح المقابر السورية "كومبليه"

"لم أرَ شيئاً، رأيتُ كلّ شيء": حين تصبح المقابر السورية "كومبليه"

07 ابريل 2021
"لم أرّ شيئاً، رأيتُ كلّ شيء": رحيلٌ من الحياة كلّها (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

على وقع حوار بين أبٍ بقي وابن غادر، ورؤية من بعيد، من منفى ناءٍ، تتتابع فيها صُوَر رمادية من خلال نافذة، أو شاشة أو ذاكرة، لمدينة لم تعدْ هي، ولأخرى لم تُصبح وطناً بعد؛ يتابع المخرج السوري ياسر قصّاب (1988)، في فيلمه الوثائقي الثاني "لم أرَ شيئاً، رأيتُ كلّ شيء" (2019، 20 دقيقة) ما بدأه في فيلمه الأول، "على حافة الحياة" (2017، 44 دقيقة): استحضار الرحيل من بلدٍ إلى بلد، ومن قبرٍ إلى قبر، ومن الحياة كلّها.

في بداية الحرب السورية، غادر قصّاب (المتخصّص بالاقتصاد والمشتغل بالتصوير) بلده متوجّهاً إلى بيروت (تدرِّب فيها على كيفية إنجاز فيلم وثائقي، في مؤسّسة "بدايات"، منتجة فيلميه الاثنين)، ومنها إلى تركيا، حيث تلقّى خبر موت أخيه الأصغر في حلب، بشظايا قنبلة. هكذا يدفع المدنيون الثمن، دائماً. هناك، في تركيا، حقق فيلمه الوثائقي الأول، في مكان ما، حيث الصمت ورتابة الحياة اليومية، التي يكسرها ضجيج المكالمات الهاتفية عبر "سكايب" مع عائلته في حلب. فيلمُ سيرة يومية عن حِداد أبوين، بقيا في الوطن، واقتلاع الابن من الجذور.

بشاعرية حزينة، وحياة معلّقة في المنافي، ووجع متعدّد الأشكال، يتابع قصّاب حواراته مع والده، مكتفياً بسؤالٍ أو سؤالين، كأنّه زاهدٌ في الكلام. فقط: "ليش؟". فبعد أنْ "انتصرَ الذي انتصر، لماذا تضايقه القبور؟". يستنكر، ليس من دون استسلام مسبق، وهو يردّ على ما يُخبره الأب عن قبورٍ، لم يُترك سكّانها في راحتهم الأبدية، وها هم، كما غيرهم، مكلّفون بإتمام المهمّة الشاقة: نقل رفات الراحلين إلى مقبرة أخرى في حلب.

يُستهّل الفيلم برنينِ وسيلةٍ من وسائل التواصل. نغمة رنين، ما إن تُلبّى حتى يتبعها رنين انقطاع. "توت توت". أهو انقطاع الخطّ، أم انقطاع الكهرباء؟ لا يهمّ. إنّه انقطاع فقط. يعود بعده السؤال: "عن شو كنا عم نحكي؟". السرد بسيطٌ. حوار عادي، يجريه يومياً كلّ سوري مع والديه، ربما. مليء بإيحاءات عن أحوال بلدٍ وأفراد. لا ذكر لأسماء أو لجهات، فقد "انتصرَ الذي انتصر"، و"الطرفان" (النظام والمعارضة) لا يكترثان بالمدنيين. ربما يحقّ للمغادرين طرح أسئلة "منتَقِدة"، لكنْ لا يحقّ لهم الحصول على إجابات من المقيمين. في الأحاديث إشارات فقط، فيما تتكفّل أصواتٌ وصُوَر بالباقي. هذه الرنّات والانقطاعات، هذا الدمار، وهذا الموت، الحاضر الأكبر، بكلّ قوة وإلحاح. الأحياء شبه موتى، والموتى يُبعثون من قبورهم، ويُهجّرون إلى أماكن جديدة. هذه أوامر السلطات العليا. ليسوا هم فقط من يُرحّلون. ابنٌ يُرحّل إلى السماء، وآخر إلى مدينة نائية، وآخرون معهما. في مقدّمة الفيلم، قبل الشارة، صُور غابة وكاميرا تتحرّك بسرعة، على هدى خطوات مستعجلة لحاملها، تتوه بين سماء معتمة وأرض موحلة. لعلّها طريق المنفى. مكان تملأه ثلوجٌ وأنهار وبرد وعتمة.

 

 

سردٌ قوي وشاعري، يقترب من حدود الروائي. اهتمام بالشكل، يجعل الصورة وسيلة تعبير أكثر من الكلمة، التي تُعتبر الـ"سلاح" الأساسيّ للوثائقي. السكون يُخيم في الفيلم، وصوت الأب يخترقه. كيف سينقلون رفات موتاهم؟ كيف سيعلّم طريقه إلى المقبرة الجديدة، كي لا يتوه فيها مرة ثالثة؟ حتى الموتى تُقلَق راحتهم. ليست دور السينما والمسارح فقط من يُعلَن اكتمال العدد على مداخلها. المقابر في سورية أيضاً تُعلن ذلك. "الجبّانة كومبليه"، يقول الأب. لم تعد هناك أماكن لقادمين جدد من جبّانة أخرى.

الابن صامت، لا يقاطع. يستفهم عن شيءٍ ما بين حين وآخر. كلّ شيء واضح. لا حاجة إلى مزيد من كلام. الصُوَر معتمة، مع بياض مكوّناتها. بياض ثلج، ورمادية أبنية منهارة، وظلال أطياف. يظهر ياسر قصّاب أحياناً في الفيلم، مُديراً ظهره للكاميرا معظم الوقت. الأمكنة تتبادل ظهورها: حلب أو المنفى. في حلب، سيارة تجول في شوارعها بسرعة. يُخَمَّن أنّ كاميرا هاتف نقّال تلتقط أبنية ضاعت معالمها. أهذا بناء أثري، أم عمارة، أم سوق؟ لا شيء سوى انهيارات وبقايا ما كان. في مكانه الجديد، يُحاط الابن بطبيعة، لا تبدو مصدر بهجة له. لا الأشجار المزهرة، ولا البحر الممتد. كلّ شيء رمادي في كاميرته.

"لم أرَ شيئاً، رأيتُ كلّ شيء" (إنتاج "بدايات"، منتجة فيلمه الأول أيضاً) عرض في الدورة الـ50 (5 ـ 13 إبريل/ نيسان 2019) لـ"رؤى الواقع ـ المهرجان الدولي للأفلام في نيون (سويسرا)"، وفي الدورة الـ8 لـ"أفلام ـ اللقاءات الدولية للسينما في مرسيليا"، المقامة "أونلاين" بين 26 مارس/ آذار و4 إبريل/ نيسان 2021. أما "على حافة الحياة"، فحائز على جائزة العمل الأول في الدورة الـ39 (24 مارس/ آذار ـ 2 إبريل/ نيسان 2017) لـ"مهرجان سينما الواقع" في باريس.

المساهمون