"قلوب كيميائية" لريتشارد تانّ: نشيدُ حبّ المراهَقة وميلانكوليّتها

"قلوب كيميائية" لريتشارد تانّ: نشيدُ حبّ المراهَقة وميلانكوليّتها

16 اغسطس 2021
ليلي راينهارت: نيرودا دربٌ إلى معرفة الذات (Getty)
+ الخط -

هذه خلطة مشاعر مذهلة: مراهَقَة وحبّ وشعر، في "قلوب كيميائية" (2020) لريتشارد تانّ. فيلمٌ عن مراهق يائس ومراهقة غامضة، يشتبكان في قصة حبّ تتغذّى من كيمياء القلوب. قصة تفتح أفق الشاب، وتضيء قلب الشابة، التي تطالع شعر بابلو نيرودا لتفهم نفسها. هذا يجعل تحليلاتها مُفرطة في التنظير. مراهقٌ، يهوى جبر الفخار المكسور، يقع في حبّ مراهقة مصدومة، تقرأ الشعر بكثافة.

يحاول الفيلم تفسير الحبّ بالفن والعلم والشعر وعلم الأعصاب. بالنسبة إلى دارسي الأعصاب، الحبّ حدث كيميائي، يُحرّك المناطق المتوحشة في الدماغ، فتهيج القصائد مشتعلةً بالعواطف. تمّ ترحيل مفاهيم من حقل علمي إلى آخر أدبي لتفسير البشر.

في الفيلم والشعر استعارات، يمكن إرجاعها إلى أصلها، أي التشبيه. بذلك، يحمل المجهول المعلوم. استعارات حسية لا تجريدية، مولّدة للمعنى لا عاقر. بفضلها، يستطيع المتلقّي فهم الصورة المجهولة له بالصورة المعلومة لديه في واقعه. بفضل الشعر، يُدركُ أنّه يمكن إصلاح الفخار المكسور. أما القلوب، فلا تنجبر. ما جرى لا يُنسى. يجب تجاوزه.

كيف يتصرّف المراهق حين يفقد حبّه الكبير فجأة؟ ينهار. يفكر في الانتحار. بعدها، تأتي الكتابة. المواضيع التي تستحق أنْ تُكتب أقرب مما يتصوّر. لدى بطل الفيلم قدرات تحرير كبيرة. يحلم أنْ يصير كاتباً. لديه منصّة للنشر. لكنْ، ليس لديه ما يقوله. الحبّ وقود الكتابة في سنّ المراهَقَة. لكنْ، لن يشتعل هذا الوقود من دون مطالعة قصائد كتلك التي كتبها نيرودا، الذي أنشد: "يدك على صدري تصبح قطعة مني".

بعد التفكير في الانتحار، تأتي الكتابة. الكتابة علاج ميلانكوليا المراهَقَة، التي تغذّي الخيال بالسوداوية والمشاعر الجامحة. يتزامن تحسّن العلاقة العاطفية مع صدور عدد جديد من مجلة الثانوية، فالكتابة علاج للحصول على التطهير (كاتارسيس).

كيف يبدو العالم لمُراهِق أميركي على أعتاب الشباب؟ يبدو له فرصة أحياناً، وكارثة مرات كثيرة.

مراهِقٌ يضغط عليه والداه ليتفوّق، وتضغط عليه مواقع التواصل الاجتماعي ليُلائم جسده مع معايير جمالية معينة. لهذا صدى في الأفلام. مثلاً: سبق للسينما الأميركية أنْ تناولت كيمياء قلب المُراهِق في "الجمال الأميركي" (1999) لسام مانديس. في هذا القبح الأميركي، يعيش المُراهِق والمُراهِقة جحيم كونهما نكرة. المُراهِقة جاين بورنهام (ثورا بيرتش) ساخطة على نفسها بسبب شكلها، الذي لا يناسب النموذج الرائج في مواقع التواصل الاجتماعي. تشعر بالعار، حين ترى جنون والدها لَسْتِر (كيفن سبايسي) بصديقتها ذات "الجسد المثالي".

 

 

تعمِّق جاين الجحيم حولها. هي ساخطة على والديها الفاشِلَين الفقيرين الأنانيين المضجرين. إنّهما لا يعرفان طعامها المفضّل. سواء كان والد المُراهِق ضابطاً شرساً، أو موظّفاً فاشلاً، المُراهِق غير راضٍ. ربما يستغرب المتفرّج غير الغربي هذا السخط، لأنّ المراهق يتحرّك في بيئة تعليمية متماسكة، تحتضن طلاباً بسحنات مختلفة، لعكسِ عيشِ أعراقٍ مختلفة في المجتمع الأميركي.

بينما تتطوّر المشاكل العاطفية للمُراهق الأميركي، تُظهر الخلفية صلابة البيئة التعليمية التي يتحرّك فيها، ويتكشّف مدى قدرتها على أنْ توفّر له فضاءً ثقافياً، يُشبع عطشه إلى فهم ذاته، ويستجيب لطموحه في مستقبل أفضل.

تُظهِر لقطاتٍ من "قلوب كيميائية" ديكوراً كبيراً. تجري الأحداث في عالمٍ أخضر كعمر أبطال الفيلم. ما يبدو فضاءً سلبياً في بداية اللقطة، يصير وظيفياً في نصفها الثاني، عندما تأتي المعلومة من عمق الكادر، أو حين يمشي المُراهق المشّاء إلى عمق الكادر، فيُسمع صوتٌ، أو تُرى سيارة فخمة أو منزلٌ كبير. هكذا يجد ما يجري في مقدمة الكادر تفسيره في عمقه، حيث الثروة والرفاهية.

يُقدّم الفيلم بورتريه مُراهِق أميركي يعيش غلياناً داخلياً. فيلمٌ يطلّ على روح حائرة مُندفعة، لكنّ المُراهق محظوظٌ، لا يعنيه ما يجري في باقي العالم. فيلمٌ عن طلاّب صفوف ثانوية، في سنّ الـ17، يُصنَّفون كمُراهقين، لأنّ طول مرحلة التعلّم تُمدّد طفولتهم ومُراهقتهم. في مجتمعاتٍ أخرى، أو خارج المدرسة، يُصنَّفون باكراً كراشدين. تختلف ألوان الطلاب وأعراقهم، لكنّهم يعيشون المشاعر نفسها. ينكشف، من تحليل أثر الحبّ في الدماغ، أنّ المُراهق العاشق المجروح يحتاج زمناً طويلاً ليُضمِّد جراحه. يعيش تجربة لا تُمحى، لذا فالمصالحة الشاملة مع الواقع الجديد مستحيلة.

لمنح الحكاية جذوراً تاريخية، يُستَشهد بمؤلّفين قدماء، كتبوا عن حُبّ الشباب، أبرزهم ويليام شكسبير، في مسرحية "روميو وجولييت".

حين تشتبك السينما بالشعر لحَكي الحبّ الأول، يفهم المُحبّ ما عاشه، وينهض ليُكمل طريقه. يحصل المُراهِق الأميركي المحظوظ على تجارب عاطفية، في الواقع والسينما، تُحرّره باكراً من الكبت. هكذا ينطلق إلى آفاق جديدة، لأنّه صديق الحبّ والكتب، وهو يقرأ نيرودا: "يموت ببطء/ من لا يسافر/ من لا يقرأ/ من لا يسمع الموسيقى/ من لا يعرف كيف يجد شيئاً بفضل عينيه".

صدق نيرودا. سافِرْ طالِعْ شاهِدْ، كي لا تموت.

المساهمون