العلاج بالموسيقى العربية... استعادة العلاقة بين الطب والفن

العلاج بالموسيقى العربية... استعادة العلاقة بين الطب والفن

12 يناير 2021
الرقص والغناء على إيقاع الطبول أحد أشكال العلاج في بعض الثقافات (Getty)
+ الخط -

بالرغم من كثرة البحوث الغربية الحديثة حول العلاج بالموسيقى، وتعدد الجهات التي تقدم هذا النوع من العلاج، فإنه لأول مرة تجرى دراسة طبية من هذا النوع لمعرفة أثر الموسيقى الشرقية في نشاط دماغ الإنسان وحالته المزاجية. الدراسة، التي بدأ العمل عليها أخيراً، يقوم عليها فريق الباحثين من "وايل كورنيل للطب - قطر"، مكوّن من علماء أعصاب وطلاب بكلية طب، إلى جانب مختصة في مجال العلاج بالفن. يعتمد العلاج بالموسيقى على مدى تأثر الجسد الإنساني بالذبذبات الصوتية الصادرة عن الآلات الموسيقية المتنوعة، ويعتبر الطبيب الألماني لانغ لودك والفرنسي جاك غوست والكندرية تريز باغو، من رواد استعمال الموسيقى في الطب النفسي المعاصر.   

علاج قديم 
هذا النوع من العلاج، الذي يوصف أحياناً بأنه شبه طبي، ليس ابتكاراً غربياً خالصاً، فمن المعروف أن أبناء الحضارات القديمة مارسوه، بل يمكن الوقوف عليه في صور بعض طقوس العلاج التقليدية في المجتمعات البدائية حالياً في أفريقيا وآسيا والأميركتين. ورصد علماء الآثار نشاطاً موسيقياً ملحوظاً في الحضارة الفرعونية، تضمن علاجاً لبعض المرضى. وكان في منف معبد صغير بني في عهد الأسرة السادسة (2280 ق.م)، مخصص لعلاج المرضى الذين يعانون من أمراض نفسية وعصبية عن طريق فرق موسيقية خاصة بالمعبد، تعزف ألحاناً هادئة مع تناولهم لبعض الأعشاب المهدئة للأعصاب. كما كان في أبيدوس معبد آخر للاستشفاء، وكان الكهنة يعالجون المرضى بالصلاة المرتلة على أنغام الموسيقى من دفوف وصاجات ونراجيل ونايات وغيرها بمعاونة فرقة موسيقية مخصصة تقيم جلسات للرقص الجماعي المنظم للمرضى. أما المرضى المقعدون فكانت تعزف لهم الألحان بجانب أسرتهم، كل على حسب نوع مرضه وبأنغام خاصة. وفي بلاد اليونان اتفق الفلاسفة، مثل فيثاغورس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو، على قدرة الموسيقى على شفاء بعض الأمراض، وهو ما نقل أيضاً عن فلاسفة الصين والهند.

أبناء الحضارات القديمة مارسوا هذا العلاج، ويمكن الوقوف عليه في صور بعض طقوس العلاج التقليدية في أفريقيا وآسيا
 

يبدو أن العلاجات النفسية التقليدية التي كانت شائعة حتى وقت قريب، في مصر والسودان والحبشة، مثل "الزار"، تمثل امتداداً شعبياً لما كان عليه الأمر في المعابد القديمة. يقول سمير الجمال إن الرقص والغناء على إيقاع الطبول الخشبية أو الجلدية، أو النفخ في الآلات النحاسية أو الهوائية عند الإنسان البدائي، مفيد لعلاج مس الجسد الإنساني بالأرواح الشريرة التي تسبب له أمراضاً خفية لم يجد لها سبباً أو علاجاً.

غالبا ما كان هذا الرقص والغناء على أنغام الموسيقى يدفع المريض إلى الدخول في حالة من الهذيان والترنح وانعدام الحس، يرتمي بعدها على الأرض مغشياً عليه، ثم يفيق بعدها معافى. وهذا أصل الزار في مصر وبعض الدول الأفريقية. ويعلق أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة، على ذلك بأنه قام ببحث على مئة سيدة من المترددات على حلقات الزار، ووجد أن غالبيتهن يعانين من اضطرابات نفسية، وأن تلك الموسيقى والرقص قد يخففان من الأعراض، ولكنهما لا تشفيان. 

علماء وبيمارستانات
وفي الحضارة العربية عالج الفيلسوف والطبيب يعقوب بن إسحق الكندي (801-873)، بعض الحالات المرضية بالألحان، ووصف تأثير النغمات على الجسد وإفرازاته. كما استخدمها الفيلسوف أبو نصر محمد الفارابي (872-950). وكان مما قال في "كتاب الموسيقى الكبير": "الإنسان إذا لحقه أسف أو رحمة أو غضب أو غير ذلك من الانفعالات صوّت أنحاء من الأصوات مختلفة، وأمثال هذه الأصوات والنغم إذا اسُتعملت ربما حصل عنها انفعال ما أو ازدياده، وربما زال الانفعال أو انتقص".

عالج الفيلسوف والطبيب يعقوب بن إسحق الكندي بعض الحالات المرضية بالألحان، ووصف تأثير النغمات على الجسد وإفرازاته
 

وفي القرن العاشر الميلادي، ظهرت رسائل إخوان الصفا، وفيها دراسة حول نغمات العود وتأثير كل نغمة على مزاج الإنسان. ويقول محرر الرسائل: "إذا ألُفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت في أوقات معينة من الليل والنهار، خففت على المرضى آلامهم، لأن الأشياء المتشاكلة في طباعها إذا كثرت واجتمعت قويت أفعالها وظهرت تأثيراتها وغلبت أضدادها". وذكر ابن سينا (980-1037)، في كتابه "القانون في الطب"، أهمية الموسيقى في علاج بعض الأمراض النفسية والعقلية التي قد تصيب الإنسان، مثل الميلانخوليا ومرض قطرب. وتطرق داود الإنطاكي (1534-1592)، في كتابه "التذكرة"، إلى أهمية الموسيقى في علاج الجنون والحميات الحارة، وفي علاج الاختلاج والارتعاش. واعتمدته المؤسسات الطبية العربية منذ العصر الأيوبي والمملوكي، مثل بيمارستان قلاوون بالقاهرة، وبيمارستان النوري بدمشق، وبيمارستان أرغون الكاملي بحلب، وبيمارستان سيدي فرج بفاس، وبيمارستان منصور الموحدي بمراكش.

التجارب الحديثة
يشير أحمد عكاشة في كتابه "آفاق في الإبداع الفني: رؤية نفسية"، إلى نجاح التجارب والبحوث الحديثة التي أثبتت تأثير الموسيقى في علاج بعض الأمراض، حيث استخدمت الموسيقى الهادئة لعلاج بعض الأمراض العصبية، كالهيستريا والتهيج، كما خفضت ضغط الدم العالي، وحسنت أداء القلب، خاصة في حالة الإصابة بالذبحة الصدرية، كذلك ساعدت على جلب النعاس والنوم لمرضى الأرق، في حين استخدمت الموسيقى السريعة والصاخبة لعلاج ضغط الدم المنخفض والاكتئاب النفسي. وأضاف أن بعض العلماء أجرى تجارب على النباتات، فوجدوا أن بعض الموسيقى التي تعزف بجوارها تعين على الإسراع بنموها، كما لوحظ أن بعض الأسماك تستجيب للموسيقى بشكل مذهل، حيث يدور كل اثنين في توافق مدهش حول جهاز راديو تحت الماء يذيع لحن الفالس.

في القرن العاشر الميلادي، ظهرت رسائل إخوان الصفا، وفيها دراسة حول نغمات العود وتأثير كل نغمة على مزاج الإنسان

يذكر أن العديد من دول العالم صارت تعتمد هذا العلاج، كألمانيا وإنكلترا والدنمارك والسويد وسويسرا وكندا وأستراليا واليابان والبرازيل والأرجنتين وغيرها. حيث يتلقى المرضى المقطوعات الموسيقية أو الأغاني المناسبة والمختارة وفق معايير محددة... في جلسات تفاعلية مشتركة أو جلسات استماع منفردة. كما تستخدم ممارسة المريض للعزف أحياناً في عملية العلاج. والحالات التي صارت تستخدم معها جلسات الموسيقى كثيرة، منها: أثناء العمليات الجراحية الدقيقة وقبلها وبعدها، استعادة النطق لمن فقد النطق إثر حادث أو سكتة دماغية، التخفيف من آلام مرضى الإيدز، تقليل الآثار الجانبية لعلاج السرطان، الخرف، التوحد، الأرق.

وبالعودة إلى تجربة فريق "وايل كورنيل للطب"، فقد استعانت الدكتورة غزلان بندريس، الباحثة في علم الأعصاب، وفريقها بأداتين للتقييم، الأولى جهاز تخطيط كهربية الدماغ (EEG) لرصد نشاط الدماغ عند استجابته للموسيقى العربية، والثانية استبيانات نموذجية موحدة لتحديد الحالة العاطفية للمشاركين بالدراسة. كما استعين بمقطوعات موسيقية تجريبية على الناي والعود والقانون.

دلالات

المساهمون