"عجلة الصّدفة والفانتازيا"... ثلاث نساء في ثلاث حكايات

"عجلة الصّدفة والفانتازيا"... ثلاث نساء في ثلاث حكايات

27 نوفمبر 2021
الفيلم توج بـ"الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" في مهرجان برلين السينمائي (تويتر)
+ الخط -

كثيراً ما يتسلّل الضعف إلى الأفلام المُكوّنة من أقسام عدّة (على نمط اللوحات الثلاثية) يحكي كلٌّ منها قصّة مستقلّة، نظراً إلى تشتّت الطرح، وعجزه عن ملامسة عمق الأشياء، في الوقت القصير نسبياً المُخصّص لكلّ قصة، إلاّ إذا كان هناك خيطٌ ناظم يعبر الكلّ، تنصهر وفقه المواضيع والمناخات، ومسارات تطوّر الشخصيات، في رؤية موحِّدة.

تحدٍّ غير هيّنٍ، استطاع المخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي (42 عاماً) أنْ يخوضه في فيلمه الطويل "عجلة الصّدفة والفانتازيا" Wheel of Fortune and Fantasy، المُتوَّج بـ"الجائزة الكبرى للجنة التحكيم"، في الدورة الـ71 (1 ـ 5 مارس/آذار 2021) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي".

وعلى الرغم من حضور شخصيات رجالية في أدوارٍ رئيسية، إلا أن أغلب أدوار الفيلم وأهمها تبقى تلك التي تؤدّيها النساء، ما يؤكّد الميل الواضح لهاماغوتشي في أفلامه السابقة، كـ"حواس" (2015) و"أساكو 1 و2" (2018) إلى نسج بورتريهات مُركّبة لشخصيات نسائية، مؤثّرة بتعقيدها وغنى الوضعيات العاطفية والاجتماعية التي تختبرها.

يتعلّق الثابت الثاني في فيلموغرافيا هاماغوتشي بمحورية الدور الذي يلعبه الحوار بين الشخصيات، ما يدفع كثيرين إلى تصنيفه في خانة المتأثّر بإريك رومِر، رغم الفرق الكبير بينهما في الحساسيات والإخراج، المتمثّل أساساً في الوازع الأخلاقي، الحاضر بقوّة أكبر عند المعلّم الفرنسي، في تحديد مضامين الحوارات ودوافع الشخصيات، ونزعة المخرج الياباني إلى التركيز على ترسّبات المشاعر في الذاكرة، وأثرها على العلاقات الإنسانية.

يتموضع أسلوب هاماغوشي في منتصف الطريق بين جهبذين كوريين: شعرية لي شونغ دونغ الحالمة والسحرية في لحظات نادرة، وحساسية هونغ سانغ سو في رسم لوحات عاطفية مُركّبة، تنشأ غالباً من تفاعل مثلّثات حبّ، من دون نسيان اشتراكه مع هذا الأخير في غزارة الإنتاج: 13 فيلماً طويلاً (منها 4 وثائقية) أخرجها هاماغوتشي في 10 أعوام فقط، كافية لتجعله أحد أهمّ المخرجين في العالم.

في القصة الأولى من "عجلة الصّدفة والفانتازيا"، وعنوانها "السحر" (أو شيء أقلّ طمأنةً)، تحكي "تسوغومي" ـ في مشهد حواري ثابتٍ وطويل ـ لصديقتها المقرّبة "ميكو"، عارضة الأزياء، في طريق عودتهما من العمل في سيارة أجرة، كيف وقعت في حبّ رجلٍ خلب عقلها، واصفةً حيثيات لقائهما الأوّل، واستمرار تأثّر الرجل بفضّ علاقته مع رفيقته السابقة قبل عامين، بعد اكتشافه خيانتها له. ما إن تغادر "تسوغومي" السيارة، حتى تطلب "ميكو" من السائق أن يذهب إلى جهة معيّنة غير منزلها، فتتّضح معالم مثلّث حبّ، لعبت الصّدفة ـ القدر دوراً أساسياً في رسمه، ثمّ يأخذ الحوار الطويل، مرة أخرى، شاهِدَ الغوص في دواخل الشخصيات وتناقضاتها، في فضاءات مغلقة، جسّدتها سيارة الأجرة أولاً، باعتبار السيارات إحدى الفضاءات المفضّلة لهاماغوتشي، ثمّ وسط بهو المكاتب المفتوحة، في ساعةٍ متأخّرة من الليل، ما أسبغ على النقاش بين "ميكو" وحبيبها السابق خليطاً من الحميمية، وشعوراً دفيناً بفوات الأوان: "لم أكن أعلم أنّ الحوارات يُمكن أنْ تكون إيروتيكيةً إلى هذا الحدّ"، تسرّ "تسوغومي" لـ"ميكو"، في إشارة ذكيّة من المخرج إلى إيمانه بقدرة الحوار الذكي والملهم على إرساء دراماتورجيا خلاّقة، انطلاقاً من تحريك دواخل الشخصيات، لتطفو على السطح أحاسيس مركّبة ومناخات مثيرة.

يروي القسم الثاني، "بابٌ مفتوح على مصراعيه"، قصة الطالب "سازاكي" الذي يلحّ في استجداء مدرّسه "ساغاوا" لمراجعة الدرجة التي حصل عليها في مادة اللغة الفرنسية، لأنّها تؤدّي إلى رسوبه، وتبخّر حلمه في أنْ يصبح مُقدّم نشرة الأخبار. لكنّ المُدرّس يواجه طلبه بالرفض القاطع. بينما يتابع "سازاكي" على التّلفاز، في وجود خليلته "ناو" في شقّته، خبر نيل ساغاوا جائزة "آكوتاغاوا" الأدبية عن آخر رواياته، تخطر بباله فكرة الانتقام من "ساغاوا"، بالاتفاق مع "ناو"، بنصب فخٍّ "جنسي" لمُدرّسهما السابق، بغية تلويث سمعته. يجمع المشهد الثاني "ناو" و"ساغاوا" في مكتب الأخير، حيث تقرأ "ناو" مقطعاً طويلاً من الرواية، اختارته بعناية، بسبب طابعه الشّبقي المثير، ما يضفي على مناخ المشهد مزيجاً من الإيروتيكية (جملة الحوار من القصة الأولى)، والترقّب المتمثّل في رفض المُدرّس محاولات "ناو" إغلاق باب المكتب، وبالتالي استدراجه إلى فخّ العلاقة الجنسية في الجامعة. يبرع المخرج في إفراغ المشهد بشكل متدرّجٍ وسلسٍ من هذا الرّهان، نحو تكوّنٍ رابط روحي بين الأستاذ وطالبته السابقة، انطلاقاً من حوار حميمي، قوامه الاعتراف والمصارحة، تنتفي فيه، بشكل تدريجي وخلاّق، الحدود بين المصطنع والصادق في اعترافات ناو، والمتحكّم فيه من المنقاد إلى العاطفة في تصرفات "ساغاوا".

لكنّ انقلاباً درامياً مفاجئاً، تلعب فيه الصّدفة دوراً أساسياً، مرّة أخرى، يأخذ القصة إلى خاتمة غير مُتوقّعة، تأتي، كعادة المخرج، إثر اختزال زمني، نتابع بعده فعل الزمن واختيارات الشخصيات في رسم مساراتها في الحياة.

تبدأ القصة الثالثة والأخيرة، "مرّة أخرى"، بلوحة مكتوبة توضح كيف أدّى انتشار فيروس معلوماتي، عام 2019، إلى إفشاء أسرار صناديق الرسائل الإلكترونية، ما عاد بالعالم إلى عصر ما قبل الاتصال الإلكتروني، واستعمال التيليغرام والرسائل البريدية مُجدّداً. في هذا السياق، تصل "ناتسوكو" إلى لقاء مع زميلاتها في الدراسة الجامعية سابقاً، لكنّها لا تندمج في الأجواء، فتغادر. تقودها الصّدفة البحتة إلى لقاء مع زميلة دراسة، واستذكار العلاقة الحميمة التي كانت تجمعهما، قبل أنْ تدرك كلّ منهما أنّها ليست الشخص الذي تظنّه الأخرى.

رغم أنّ حبكة القصة هنا أقلّ تعقيداً من السابقتين، إلا أنّها تمنح بشكل مفارق حيّزاً أكبر لهاماغوتشي، للقبض على طيفٍ من الأحاسيس الدقيقة لدى شخصيتيه، انطلاقاً من ثيمات ـ لازمات في أفلامه، تحضر هنا بقوة، أهمّها ما يرشح في الذاكرة العاطفية بعد أنْ تفترق سبل الشخصيات، وتغيّر ظروف الحياة أولوياتها ونظرتها إلى الأمور، وكيف يستدعي الشَبَه الخارجي (نتذكّر الشبه بين خطيب آساكو والممثل التلفزيوني في "أساكو 1 و2") المعضلة السرمدية حول مقدار تأثير الشكل الخارجي والروح في تشكيل علاقة الحبّ بين شخصين. يرتكز هذا القسم، أساساً، على جمالية التظاهر ولعب الأدوار، حيث يصبح سوء التفاهم والالتباس (يا للمفارقة) الطريق الأقرب إلى إفضاء الشخصيات بمكنونها، وإفصاحها عمّا لم تستطع يوماً قوله لمن يهمّهم الأمر.

المساهمون