"شدّ الحبل": لا ادّعاء بل تطوير للشخصيات

"شدّ الحبل": لا ادّعاء بل تطوير للشخصيات

06 مايو 2022
"شدّ الحبل": مشاهد واقعية عن فترة تاريخية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يستعير المخرج السينمائي التنزاني أَميل شيفجي (1990) أحداثاً من رواية مشهورة للكاتب الزنجباري الأصل شافي آدم شافي، ويؤسّس عليها نصّ فيلمه الروائي، الذي يحمل العنوان نفسه: "شدّ الحبل" (2021). روايةٌ، كلّ من دخل المدارس التنزانية قرأها، لوجودها في المناهج الدراسية المقرّرة. يعرف الطلاّب والقرّاء تفاصيلها، وأسلوب كاتبها، الذي ذاع صيته خارج بلده (صدرت عام 1988، عن "المركز القومي للترجمة" في القاهرة، بعنوان "الشدّ والجذب"، ترجمة محمد إبراهيم أبو عجل وعبد الله معاوية عبد الرحمن).

النصّ الروائي، المعروف على نطاق واسع، والذي يتناول جانباً من التاريخين السياسي والاجتماعي لزنجبار، يضع الوسيط التعبيري البصري أمام اختبارات الولاء لخصوصية النوع، واشتراطاته.

أسلوب السرد البصري وجمالياته في الفيلم ـ الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة "مخرجون جُدد"، في الدورة الـ48 (14 - 24 إبريل/نيسان 2022) لـ"مهرجان سِتل السينمائي الدولي" ـ يؤشّر على اختيار صانعه للصورة، بكلّ تجلّياتها، وسيلة رئيسية للتعبير عن علاقة حبّ جارفة، بين صياد سمك وامرأة زنجبارية من أصول هندية. علاقة نشأت في ظرف اجتماعي ملتبس، تداخلت فيه المحافظة الدينية بالانفتاح الاجتماعي الشكلي، المقرون بوجود الانتداب البريطاني. بسبب الصراعات السياسية، المشحونة بتوتر وتصعيد، انتهت علاقتهما بفراق. رغم مرارته، تشبّث العاشقان بأمل لقاء آخر، في ظرفٍ أحسن، وعيشٍ أجمل.

المتناقضات، بمستوياتٍ عدّة، حاضرة في المشهد الناقل لزنجبار بعد أعوامٍ قليلة على نهاية الحرب العالمية الثانية، وتصاعد الحراك الوطني المُطالب بإنهاء الوجود الاستعماري. العلاقة الجامعة بين الصيّاد الثوريّ دينغي (غودرون كولومبوس موانيكا) وحبيبته ياسمين (إخلاص غفور فورا)، يُراد لها أنْ تكون منطلقاً لتصفّح تاريخ بلدٍ ومنطقة.

التداخل بين قصة الحب، بوصفها البؤرة الدرامية المركزية، وبقية الهالات الأوسع المحيطة بها، تتيح للسرد السينمائي الرصين استخدام وسائط تعبيرية مساعدة لتجسيدها. الأغنية العربية (عبد الحليم حافظ وصباح وفيروز) تتسرّب بين ثنايا المشاهد، التي تختلط فيها موسيقى هندية وألحان سواحيلية وأغان غربية، تتكامل جمالياً مع مشهديات البحر الواسع (تصوير زين فان زيل) والحقول الشاسعة، الشاغلة ببهائها مساحة الشاشة كلها. من دون أي نفور، تتناغم مع ضيق شوارع الأحياء الزنجبارية القديمة، بألوان مصابيحها الخافتة، الموحية ليلاً بشاعرية مدن السواحل الأفريقية وسريتها، التي يتّخذ منها الشيوعيون (صفة يطلقها رجال الدين وممثلو سلطة الانتداب على كلّ مَنْ ينشط ضدهم) غطاء لتحرّكاتهم، ونشرهم ثقافة ماركسية تدعو إلى المساواة والتحرّر من العبودية والاحتلال.

 

 

الاشتغال السينمائي على نقل التناقضات والصراعات، الحاصلة في مرحلة تاريخية سابقة على الاستقلال، بأدوات محلية تحقّق نتائج تضاهي في جودتها أفلاماً غربية كبيرة الإنتاج، يعزّز (الاشتغال السينمائي) الرهان على الموهبة، وعلى كرم السينما وعطاياها، المقبلة إلى شاشات عالمٍ من جهات أرضٍ، لم يُعرف عن منجزها السينمائي الكثير، ولا عن تاريخ بلدانها، كـ"شدّ الحبل"، الآتي من أفريقيا، والطامح إلى عرض جوانب من التاريخ المعاصر لزنجبار، بأسلوبٍ سينمائي مُثير للدهشة، لشدّة ما فيه من حلاوة واعتناء بترتيب المشهد التاريخي، كتابةً (سيناريو المخرج مع زميلته وجينا ياس) وتنفيذاً (الديكورات المناسبة، والتأثيث المكاني المتطابق مع المرحلة التاريخية بكلّ تفاصيلها الدقيقة)، ما يجعل من منجز أَميل شيفجي "مفاجأة" تدعو إلى التباهي.

الصراع بين الثوار، بمختلف مشاربهم وأديانهم، وسلطات الانتداب، والحاكم العُماني، تعالَج درامياً بأسلوب تقليدي. مُلاحقة، وعمليات مسلّحة في جنح الظلام، وسجن ينتهي إليه العاشق الثائر. تطوّر شخصية العاشقة مُثير للالتفات، لتركه ياسمين تدخل عالم السياسة من دون تصميم مسبق. هاجسها الأول التخلّص من زوجها العجوز، الذي أُجبرت على الزواج منه. هروبها من بيته، وتعرّفها على دينغي، مهّدا الطريق أمامها لمعرفة ما يدور حولها. أدركت، بعد مكوثها المؤقّت في بيت صديقتها المغنية مواجما (سيتي أمينة)، أنّ صراعاً يدور في العالم، وفي وطنها، ينبغي أنْ يكون لها دورٌ فيه.

لأنّه ليس فيلماً مدّعياً، ولا طامعاً في مراضاة نزعة نسوية معاصرة، يعتني "شدّ الحبل" كثيراً بتطوير شخصية بطلته، بهدوء ومن دون مبالغة. يتركها تراقب طويلاً ما يجري حولها، ثمّ، وبشيء من الحذر، تبدأ بالمشاركة. نشاطها السياسي تُتوّجه بالتخطيط لتهريب حبيبها من السجن، وتسفيره إلى تنزانيا بحراً. خسرت حبّها، لكنّها ربحت نفسها، ومنحت المُشاهد مساحةً لتأمّل تحوّلاتها في سياق حدث تاريخي مُتخيّل، نُقل إلى الشاشة بمشهديات رائعة، واشتغال سينمائي، خصوصيته الأفريقية حاضرة فيه.

المساهمون