"رحلة في الأدغال": استهلاك ترفيهي

"رحلة في الأدغال": استهلاك ترفيهي

03 نوفمبر 2021
"رحلة في الأدغال": استسهال بصري (جف غريتشن/ Getty)
+ الخط -

 

حتى وإن لم يتصدّر "رحلة في الأدغال" (2021)، للإسباني يَوْمي كوليت ـ سيرّا، منذ نهاية أغسطس/آب 2021، شبّاك التذاكر الأميركيّة، فإنّ تأثيره في الإعلام السينمائي الغربي لا يزال سارياً، في منابر وجرائد ومجلاّت تتفاعل نقدياً معه. هذا ليس بسبب ما يُضمره من اشتغالاتٍ فنيّةٍ وجماليّة، أو ما ينحته من فكرٍ بصري أو أفقٍ سينمائي مُغايرٍ، بل بسبب هالةٍ إعلامية رافقت مسار تغلغله في وجدان المُشاهد العالمي، سلباً وإيجاباً، خاصّة أنّ عمل "ديزني" لا يتوقّف عند الإنتاج والعرض، بل يخترق حدود التوزيع والإعلام.

نجاح أفلام أميركيّة كثيرة لا تتحكّم فيه نزعة سينمائية وجمالية، بل هواجس إعلامية أولاً، تدفع بالمنتوج البصريّ إلى واجهة المشهد السينمائي، وهذا حصل مع "رحلة في الأدغال (Jungle Cruise)".

ما تُريد "ديزني بلاس" تأكيده يكمن في أنّ الصناعةَ الهوليوودية المعاصرة كُلٌّ مُركّب، يجمع في طيّاته الممارسات الفنيّة كلّها، المُرافقة لولادة الفيلم، من عرض وتوزيعٍ ولقاءات وندوات ومقالات وحوارات. كلّ هذه الروافد والمؤثّرات البرانيّة تتلاحم فيما بينها، لتُكوّن وسيطاً مُركّباً يلهث وراء إنجاح الفيلم تجارياً. إضافة إلى كونه يجمع نجوماً عديدين في السينما الأميركية، وبالتالي، فإنّه مُشجّع للمُشاهد، الذي يُغذّي مُشاهداته بركام من الكليشيهات البصرية الباردة، القائمة على تأجيج مفهوم البطل، وحركات الأكشن، والإثارة الجسدية.

يستند الفيلم على عناصر بصرية باتت مُبتذلة بسبب تكرارها في أفلام عدّة لـ"ديزني": الرغبة في التجديد غير موجودة. الابتذال حاضرٌ بشتّى الأنواع والطرق، إلى درجة أنّ "ديزني" تتفنّن فيها وتُقدّمها بصورٍ متلوّنة. الحكاية هشّة، لا تُتيح أيّ مُتنفّس للمُشاهدة والاستمتاع. مكائد وقذائف وقتل، وأشلاء أجسادٍ تتطاير في الهواء بطريقة تجعلها كرنفالية، وأشبه بصور الـ"أنيمايشن".

لا حكاية في "رحلة في الأدغال" تُجمّل أفق المُشاهد ومُتخيّله، وتجعله ينتظر صامتاً، ويحلم بقصص ويؤلّف حكايات في ذاته قبل الشاشة. يندهش المُشاهد أنّ الفيلم مُكوّن من صُوَرٍ فانتاستيكية ساحرة، عن الغابات والأفاعي والأسماك والأسود، بطريقة مُملّة ومُكرّرة، فالمَشاهد أشبه بإكسسوار واحد يُعاد توظيفه من مشهدٍ إلى آخر.

هواجس التجديد والتفلّت من الصناعة الهوليوودية غير موجودة. لكنّ وجود نجوم كثيرين مُفيدٌ لمن يشتري تذكرة دخول إلى الصالة. المُشاهد الغربي غير معنيّ بأفلام المفاهيم والقضايا والإشكالات والظواهر والحروب، فالواقع مُؤلم ومُعطّل ومُتصدّع. بالتالي، ذهابه إلى صالة سينمائية يهدف إلى التسلية والاستمتاع والترفيه، بعيداً عن الإدراك والتأمّل والتفكير. لم تعُد السينما الهوليوودية بحاجة إلى إنتاج أفلام فلسفية ونفسية اجتماعية، أمام ملايين الدولارات الأميركية التي تحصدها مع كل فيلم جديد. يُعدّ "رحلة في الأدغال" أضخم هذه المُنزلقات السينمائية، التي أنتجتها "ديزني بلاس" مؤخّراً.

 

 

في وقت كان ينتظر العالم مجهوداً كبيراً، وإنتاجاً مغايراً، وكتابة مُنفلتة من سُلطة النموذج الغربي، بعد أكثر من عام على قهر الحجر وجُرحه. يقول البعض إنّ الحجر أحد العوامل المهمّة، التي كان يجب عليها حثّ "ديزني" على إعادة التفكير فيما تنتجه من أفلام ترفيهية، وفي ضرورة تجديد السينما، وفهم ذوات الناس وسيرهم ومصائرهم، على ضوء ما شهده العالم من أهوال وشروخٍ وتصدّعات.

يستند "رحلة في الأدغال" على حكاية، مجرّد كليشيه، للتوغّل بصرياً في مسام الـ"فانتاستيك"، لكنْ بطريقة تقليدية، حيث يضع المُؤلّف نقطة سينمائية بعيدة، فيكون الهدف ترتيب أفكارها ومَشاهدها ومواقفها وسلّم لقطاتها، بغية الوصول إليها. ما يجعله بارداً، ومَشاهده مُتوقّعة، وذات بنية بصرية هشّة ومُتفسّخة. أغلب المَشاهد مُتشابهة، والأداء بارد ومُتصنّع. لكنّ السبب لا تتحكم فيه قلّة الموهبة، بل ارتباك السيناريو، وعدم قدرته على دفع الممثل إلى إبراز مَشاعر ومواقف وحالات عيش. إيميلي بلانت مثلاً بدت في كامل تلقائيتها وتصنّعها وافتعالها في أداء مَشاهد مغامرات كوميدية ساخرة، ودُوَاين جونسن كأنّه غير قادرٍ على تملّك الدور، والغوص في مَشاهد واقعية وبسيطة، مع أنّه يُبدي العكس، حين يتعلّق الأمر بمَشاهد العضلات والأكشن والمُغامرات. لا أفق له في مَشاهد تلقائية، تفترض استجابة أداء ذكي، بعيداً عن الضرب.

الفيلم ومَشاهده استسهال بصريّ مُكرّر. مع ذلك، حقّق نجاحاً كبيراً لـ"ديزني"، كي تُواصل إنتاج أفلام استهلاكية، ذات نمط ترفيهي، تعوّدت أنْ تغزو به صالات السينما في العالم، مع وعي مُسبق بأنّها تدفع السينما الهوليوودية إلى مُشاهدة تدفقية، مبنيّة على المُتعة والتسلية.

المساهمون