السينما الهندية والنقد... برامج باهتة وقراءات انطباعية

السينما الهندية والنقد... برامج باهتة وقراءات انطباعية

21 سبتمبر 2021
السينما الهندية الأكثر في العالم تملّكاً لإعلام خاصّ بالسينما (Getty)
+ الخط -

تعيش السينما الهندية هذه الأيام انتكاسة تجارية حقيقية بسبب كورونا: تقلّص إنتاجها السينمائي السنوي، الذي جعلها، لأعوامٍ طويلة سابقة، تتربّع عالمياً على عرش الفنّ السابع، من حيث الكمّ؛ وهشاشة الأفلام الجديدة وضحالتها، تلك التي تُعرض حالياً على مواقع ومنصّات.

الرغبة في البحث عن الجديد حاضرة منذ عام، لكنّ الاجتهاد غير مُوفَّق البتّة. كوارث جماليّة، وفضائح سينمائية، تستند في مُجملها إلى الترفيه والاستسهال، وتقوم على نوع من الكليشيهات البصريّة، المُستندة إلى تأكيد البطولات، وتمديد البكائيات، واستعراض أجساد الممثّلات. السينما الهندية، رغم مظاهر الألم الذي ألمّ بها في الأشهر الماضية بسبب كورونا، لا تزال تُؤمن، بسذاجة، بأهميّة الأبطال في حياتها المعاصرة؛ والمعاناة التي أصابت الاجتماع الهندي، في الفترة نفسها، لم يعُد الخيال نفسه يقوى على استيعابها، أو على تصديق مجاز الصورة واستعارتها، أمام صُوَر مختلفة للموت، الذي يفتك بحياة الهنود. المدن الهندية تحوّلت إلى مقابر، والجرح غائر في أجساد الناس، لكنّ السينما لا تنتبه، لانشغالها بالحبّ والبطولات، ما أنتج أفلاماً أكثر انفصاماً وازدواجية بين ما عاشه المجتمع الهندي، منذ تفشّي كورونا، والواقع المُتخيَّل، الذي تُحاول السينما تقديمه في حلّة بصريّة أكثر تنميطاً ورداءة.

بقدر ما يُفسِّر هذا كلّه هشاشةَ النصّ السينمائي الجديد، يدقّ ـ في الوقت نفسه ـ ناقوس الخطر، بشكل مُضمر، بخصوص دور الناقد في السينما الهندية، وبما إذا كانت عشرات البرامج الترفيهية، المُخصّصة للسينما في التلفزيون الهندي، قادرة على امتصاص مظاهر التعفّن، التي بدأت تُخيّم على الأفلام الهندية. فالناقد يلعب دوراً كبيراً في تغذية الإعلام السينمائي، ويُوجّهه إلى مواطن القوّة والضعف، بحكم خبرته الفنيّة، وتسلّحه بمفاهيم ومعارف ونظريات، تُساعده على إضاءة المُعتَم في الفيلم، والكشف عن خفايا وأسرار، تجعله ناجحاً وقادراً على التأثير في الوسط الفني الذي يظهر فيه. بهذا المعنى، يغدو النقد عملية عضوية في الإنتاج السينمائي، لا باعتباره أداة إعلامية تُقرّب المُشاهد من الفيلم، وتُقدّم له أخباراً ومعلومات عنه، بل بوصفه وسيطاً فكرياً، يحفر في أنماط الصورة الفنيّة، ومدى تشابكها جمالياً مع الواقع الهندي، سياسةً واجتماعاً. النقد قادرٌ على تخليص السينما الهندية من ابتذالها، بفضل مقالات ونقاشات مع مخرجين وكتّاب سيناريو، تتداول أزمة الفيلم الهندي بعد كورونا.

السينما الهندية، رغم مظاهر الألم الذي ألمّ بها في الأشهر الماضية بسبب كورونا، لا تزال تُؤمن بسذاجة بأهميّة الأبطال في حياتها المعاصرة، فيما المعاناة التي أصابت الاجتماع الهندي في الفترة نفسها، لم يعُد الخيال نفسه يقوى على استيعابها

طبعاً، لا علاقة للأزمة التي يعيشها النقد الهندي، مؤخّراً، بما آلت إليه الأمور بسبب الوباء. ففترة الحجر، وما تبعها من صمت وهدوء، قادرة على إخراج الناقد السينمائي من ضوضاء المُشاهدة إلى صمت القراءة، والتفكير في سياقات ومفاهيم وأفلام ومصطلحات خاصّة بالسينما الهندية. رغم هذا، تبقى السينما الهندية أكثر السينمات في العالم تملّكاً لإعلامٍ خاصّ بالسينما ومُتخيّلاتها، لوجود كمٍّ من الصحف والمجلاّت والبرامج الفنيّة، المعنية يومياً بالسينما الهندية، التي تُعرّف بها، بمقالات ودراسات ومقابلات ودردشات، لا سيما في الإعلام المرئي، الذي تُخصِّص له الدولة دعماً سنوياً كبيراً. 

ولأنّ عائدات هذه البرامج السينمائية أكبر بكثير من الدعم الذي تحصل عليه البرامج نفسها. لكنّ البرامج المذكورة، عموماً، باهتة على مستوى طرح تصوّرات مهمّة، وقضايا مركزية في السينما الهندية وصناعتها، إذْ تغلب عليها الثرثرة والنميمة والجمال والاستعراض الجسدي والتدريب الإنشادي، لأنّ الضيوف النجوم غير قادرين على نقد ما يحدث فيها، خوفاً من أن ينعكس ذلك سلباً على عملهم السينمائي، فيتباهون بأجسادهم وملابسهم وأشكالهم، وهم يتحدّثون عن التصوير وجماليّات بعض المَشاهد بشكل سطحيّ، يدعو إلى السخرية.

مع ذلك، تُحقّق هذه البرامج نسبة عالية من المشاهدات، ما يجعل نسخها تُدعَّم وتُنتج مجددّاً سنوياً. أحياناً، يتمّ تغيير مُقدِّم/ مُقدِّمة البرنامج، وإضفاء نوع من تجديدٍ وزينة في بلاتوهات التصوير واكسسوارات الحلقة، من دون تغيير الضيوف النجوم، باستثناء ملابسهم وأشكالهم. كلّ شيءٍ حاضر في هذه البرامج الفنيّة باستثناء السينما، إذْ يُصبح النقد مجرّد انطباعات من قبيل: هائل، مذهل، جيد.

مثل هذه العوامل تظلّ تحتكم إليها البرامج، التي يغيب عنها نقّاد السينما، وتحضر فيها وجوهٌ صحافيّة مشهورة، لا فرق بينها وبين النجوم السينمائيين على مستوى النجومية، ما يجعل الأسئلة تأخذ بُعداً يقوم على الاستفسار بدلاً من الحفر، والترفيه بدلاً من الاستقصاء والمعرفة.

الغريب أنّ مختلف أشكال النقد المكتوب، الذي يصل مُترجماً إلى اللغة الإنكليزية، يطبعه نوعٌ من صحافة سينمائية، تُعرِّف بالأفلام والممثلين والعاملين في صناعة الإنتاج الهندي، من دون جديدٍ يُذكر. هذا يجعل الناقد السينمائي الهندي لا يحظى باحترامٍ كبير، بوصفه أحد صنّاع المُتعة الجماليّة في الفيلم الهندي. فالنجوم يتفوّقون عليه إعلامياً، ويحشدون خلفهم ملايين من محبّي السينما، حتى أضحى الممثّل حاضراً باعتباره "ناقداً" في المهرجانات الهندية وجوائزها. الناقد مُغيَّب، لأسباب متعلّقة بهشاشة الكتابة النقدية، وبعدم جدواها، نظراً إلى ملايين الدولارات من الأرباح، التي تحصيها السينما الهندية يومياً. لذا، فحضوره غير ضروري رغم أهميته، لأنّ هناك من يُقدّم مادة صحافيّة متوفّرة على بوسترات الأفلام، والعثور عليها سهلٌ بفضل وسائل التواصل الاجتماعي.

النقد قادرٌ على تخليص السينما الهندية من ابتذالها، بفضل مقالات ونقاشات مع مخرجين وكتّاب سيناريو، تتداول أزمة الفيلم الهندي بعد كورونا

لكنْ، ما لا تنتبه إليه السينما الهندية أنّ النقد السينمائي مسؤولية فكرية، لا ترتكز على جمع المعلومات، وإعادة صوغها إخبارياً، بل يكمن دوره ونجاعته في اللحظة، التي يعي فيها الناقد السينمائي الهندي أنّ وظيفته تنعكس في نقده كلّ ما يُشاهده من أفلام، خاصّة أنّ النقد المعاصر حقّق نهضة فنيّة، على مستوى قراءاته وتفاعلاته مع الأفلام، بعد المتون النظرية الغربية، التي راكمتها أسماء مثل جيل دولوز وريجيس دوبري وإدغار موران ومارك فيرو، فأصبح النقد أكثر تفاعلاً مع مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي غذّت هذا الخطاب النقدي بأفكارٍ ومواقف ومفاهيم ونظريات، لاجتراح خطابٍ نقدي سينمائي مُركّب، لا يُقيم حدوداً بين العناصر الداخلية (الصورة، المونتاج، الأداء، الموسيقى) للفيلم، ونظيرتها الخارجية (السياق، الإنتاج، المفاهيم، النظريات)، التي تُعنى بدورها بتفسير الفيلم، وفهم ميكانيزماته، وطرق تخييله، ومراجعه الفنيّة.
لم يعد النقد السينمائي يبدأ من الفيلم وينتهي فيه. هناك نظريات فكرية معاصرة كثيرة، تجعل الكتابة النقدية الجديدة أشبه بمختبرٍ معرفي، تلتقي فيه المناهج فيما بينها، وتتماهى مختلف أنواع التحليلات التاريخيّة والفلسفية والسيميائية والسوسيولوجية، لتُكوّن خليطاً من المعارف، يُسهّل عملية فهم الفيلم واستيعابه.

النقد السينمائي الهندي لم يصل بعد إلى مرحلةٍ، يصبح فيها تفكيراً، لأنّ منطلقات الناقد الهندي تبقى ترفيهية، ولها علاقة قويّة بالمُنجز السينمائي المحلي. والنجاح التجاري، الذي تشهده السينما الهندية منذ نحو قرن، يقف عائقاً أمام الناقد الهندي في تفكيره بضرورة تغيير نمط كتابته ومفهومه الخاصّ للسينما، كفنّ مُركّب، قادر على احتضان أكبر القضايا والأفكار الفلسفية، بدلاً من أنْ يكون وسيطاً ترفيهياً، قائماً على المُتعة والتنويم.

النجاح التجاري الذي تشهده السينما الهندية منذ نحو قرن يقف عائقاً أمام الناقد الهندي في تفكيره بضرورة تغيير نمط كتابته ومفهومه الخاصّ للسينما، كفنّ مُركّب قادر على احتضان أكبر القضايا والأفكار الفلسفية، بدلاً من أنْ يكون وسيطاً ترفيهياً قائماً على المُتعة والتنويم

في هذ الأفق الغائم، تبرز الصحافية والناقدة السينمائية أنوباما شوبرا (1967) كأبرز الناقدات. لها كتبٌ سينمائية عدّة باللغة الإنكليزية، وكُتب ـ حوارات مع نجوم السينما الهندية، ما يجعل اسمها حاضراً بقوّة في السينما الهندية، على مستوى تأثير كتاباتها، ولاشتغالها في الإعلام والصحافة، ولقدرتها على نسج علاقات كبيرة مع نجوم بوليوود، خاصّة أنّ أسماء كخان وكابور وشوبرا لها وقعٌ خاصّ في المجتمع الهندي، لأنّ عائلاتها أكثر تجذّراً في تاريخ السينما الهندية.

هذا عاملٌ مهمّ في بروز أنوباما شوبرا كناقدة سينمائية، لأنّ الإعلام المرئي، وما تُقدّمه فيه من برامج استفتاءات وقراءات ومقابلات ودردشات، يجعلها مشهورة في الأوساط السينمائية الهندية، ويُسهّل عليها اقتحام وسائط النقد، حتى لو كانت كتابتها هشّة ومُرتبكة.

الحقيقة أنّ شوبرا معروفة لكونها من كبار نقاد السينما في الهند، بحكم ما يطبع كتابتها من تناسق في الاشتغال. كتابة يُغذّيها عشق بيّن في لغتها وتعابيرها. فهي تستكنه جوهر السينما الهندية على شكل مونوغرافيات نقدية، كتلك المُخصّصة للفيلمين الكبيرين، "شولاي" (1975) لرميش سيبي، و"العاشق المجنون" (1995) لأديتيا شوبرا، وكتاب فنيّ آخر عن الممثل شاه روخان، صدر عام 2007.

المُثير للدهشة في تجربتها، قدرتها على اختيار أفلامٍ مُحدّدة، لها وقعها في الوجدان العالمي. ساهمت في إثراء مُتخيّل أجيال بكاملها، ولا تزال إلى اليوم تُشاهد أفلاماً، بالمتّعة نفسها للمُشاهدة الأولى. إمكاناتها هائلة في مواصلة الكتابة عن فيلمٍ بنَفَسٍ واحد، من دون ملل ولا اجترار، إذ تتعامل مع الفيلم السينمائي باعتباره موضوعاً للدرس السينمائي، يُحقّق مُتعةً، وينتج معرفة سينمائية لها علاقة بالنقد المعاصر. كأنّها تكتب عن مجموعة قصصية أو عن رواية، في تحريرها مقالات مختلفة عن أفلامٍ عدّة في كتابٍ واحد.

المساهمون