مصائب الدراما اللبنانية... موسيقى صاخبة ولقطات بطيئة وأداء مفتعل

مصائب الدراما اللبنانية... موسيقى صاخبة ولقطات بطيئة وأداء مفتعل

20 مايو 2020
من مسلسل بالقلب (يوتيوب)
+ الخط -
تكشف مُشاهدة أعمال تلفزيونية لبنانية، تُعرض خلال شهر رمضان الحالي، ثلاث مصائب (من بين مصائب أخرى)، يبدو واضحاً أنّ هناك صعوبة كبيرة في تفاديها. كشفٌ أشبه بتأكيد ما هو مؤكّد أصلاً. والمؤكّد ـ إذْ يتمّ تَدَاوله النقديّ مراراً في مناسبات مختلفة، أبرزها بدء العروض التلفزيونية السنوية في شهر رمضان نفسه ـ يُشير إلى التزام معايير استهلاكية بحتة في إنتاج عملٍ يخضع لقواعد متأتية من مصلحة تجارية لا علاقة لها بالفنّ وصناعته. ومع أنّ المصائب الثلاث تلك لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة لحلّها، وغير مؤثّرة سلباً على الجانب التجاري ـ الاستهلاكي، وغير معنيّة بمصالح منتجين وأصحاب مؤسّسات تلفزيونية، إلا أنّها تحضر دائماً من دون اكتراثٍ أو اهتمامٍ بمقتضيات بسيطة في صناعة عملٍ تلفزيوني. هذا، ببساطة شديدة، يعكس جهلاً بأصول المهنة، أو تغاضياً عنها، أو لامبالاة، أو عدم اهتمامٍ.

أولى تلك المصائب تتعلّق بالموسيقى، إنْ تكن "تصويرية" أو مرتبطة بأغنية البداية ("أغنية الإشارة" أو أغنية "الجينيريك")، أو بأغنياتٍ يندر تضمين مسلسلات تلفزيونية لبنانية بها. فغالبية صانعي تلك الأعمال، المُسمّاة درامية، تعتبر كثرة الموسيقى في السياق الدرامي مطلباً أساسياً يُساعد على تأثّر المتلقّي بالحدث المبثوث على الشاشة الصغيرة، ويمنحه جرعات متتالية من الاستسلام لما يحصل أمام عينيه، ويدفع بالحدث إلى ذروة درامية، يظنّ صانعو العمل أنّهم يحتاجون إليها لمزيدٍ من التصعيد أو التوتير، أو لإثارة مزيدٍ من التعاطف أو الانجذاب أو التفاعل.

لكنّ هؤلاء غير مُدركين أنّ "الصمت البصري" (إنْ تصحّ المفردة) غالباً ما يكون أفضل تعبير وأجمل بوحٍ وأدقّ كشفٍ في أيّ عمل تلفزيوني أو سينمائي، وأنّ مَشَاهد عدّة ولقطات كثيرة غير مُحتاجة إلى "مؤثّر صوتيّ أو بصري"، إنْ يُحسِن المُصوّر والمخرج والمولِّف (المونتير) استخدامها بصرياً. هؤلاء غير مُدركين أنّ أجمل المَشاهد/ اللقطات هي تلك المتحرّرة من "صَدْماتٍ" موسيقية يغلب عليها، لبنانياً وعربياً، الضجيج والصخب وانعدام كلّ إبداع فيها، وغياب حدّ مطلوبٍ من التناغم مع ما يحدث على الشاشة، أو مع ما لا يحدث أصلاً، وهذا أهمّ وأعمق درامياً وجمالياً وفنياً. هؤلاء غير مُدركين أن براعة ممثل، في حركة أو نُطق أو نظرة أو مَلمَحٍ أو قول، أهمّ وأعمق من أي مقطوعة موسيقية، وإنْ يؤلّفها موسيقيّ لامع. هذا لا يعني تغييباً دائماً ومطلقاً للموسيقى، فهذه الأخيرة حاجة درامية، شرط أنْ يُتقن صانع العمل كيفية إدراجها في سياق متماسك.

والأغنية؟ أمّ المصائب، لفقدانها كلّ صلّة بين مضمونٍ وبين من يُفترض به أنْ يكون مُشاهِداً، لا مجرّد متفرّج أو متلقٍّ: كلمات مسطّحة، وألحان معطوبة، ونبرة صوت المؤدّي مليئة بنشاز يراه صانعو أعمالٍ كثيرة أنّه الأنسب، ربما لأنّه الأرخص في سوقٍ تحتاج إلى مكمِّلاتٍ كي تتمكّن من أنْ تحضر في موسمٍ تلفزيوني، كموسم رمضان. لا معنى ولا بناء ولا تأثيرَ ولا فعلَ ولا بوحَ، بل مجرّد كلمات يُرصف بعضها إلى جانب البعض الآخر "كيفما كان"، مع إيقاع مؤذٍ للسمع، لشدّة سطحيّته وصخبه وفراغه. تُريدون مثلاً؟ أغنية الإشارة في "بالقلب" (تأليف طارق سويد، إخراج جوليان معلوف): كلمات (علي المولى) تشي بسذاجة تعبير، ولحن (محمود عيد) يؤكّد تلك السذاجة، وتوزيع (جمال ياسين) يُفترض به أنْ "يُرتِّب أمور اللحن"، فإذا به يحتاج إلى من يُرتِّب أموره أصلاً. أما الطامة الكبرى، ففي الأداء (أحمد سليم)، "الأبرع" في الحؤول دون أي تواصل فعليّ مع مسلسلٍ "يطول ويطول ويطول" من دون تبرير درامي، أو جمالٍ فنّي، أو إخراج لافت للانتباه، بينما أداء بعض الممثلات/ الممثلين (نوال كمال، ألين لحود، سمارة نهرا مثلاً، إلى شابات/ شبان قليلين للغاية) يمنح المتلقّي/ المتفرّج فسحة راحة، وإنْ تكن الراحة مؤقّتة.

ثاني المصائب تكمن في استخدام "لقطات بطيئة" (Slow Motion)، لسببٍ أو من دون سبب. صانعو أعمال تلفزيونية لبنانية يظنّون أنّ هذه التقنية تُناسب اللحظات الدرامية كلّها، فيستخدمونها من دون أدنى تنبّه إلى مدى ضرورتها أو إلى عدم الحاجة إليها، ومن دون إدراكٍ فنّي لموقعها في السياق. تقنية كهذه غير مهمّة في نتاجاتٍ حديثة، لكنّ صانعي أعمالٍ تلفزيونية لبنانية يرونها مطلباً (غالب الظنّ أنّهم، هم أنفسهم، غير مُدركين ماهية هذا المطلب أصلاً)، أو "نبرة إبداعية" يظنّون أنّها إضافة بصرية ضرورية.

ثالث تلك المصائب غير شاملةٍ الأعمال كلّها: شخصية رجل الأمن أو المحقّق. فرغم ندرة حضوره في أعمال لبنانية، لأسبابٍ كثيرة، لعلّ أبرزها خشية صانعي المسلسلات من المسّ بأحد محرّمات البلد، يظهر رجل الأمن ـ الذي يكون محقِّقاً في جريمة ما غالباً (فأجهزة الأمن والاستخبارات "ممنوعة" إجمالاً على أعمالٍ تلفزيونية وأفلامٍ سينمائية لبنانية) ـ ممثِّلاً تغلب عليه نجومية ما، بدلاً من أنْ يكون مُحقِّقاً يُنفِّذ مهمّاته من دون تغييب الجوانب الإنسانية والبشرية والاجتماعية فيه. هناك عطبٌ كبير في كتابة الشخصية، إمّا خوفاً من تجاوز حدودٍ ضيّقة مسموح بها في كتابتها التلفزيونية، وإمّا عجزاً عن فهم أبعاد تلك الشخصية وبنائها النفسي والروحي والمعنوي والمسلكيّ، وإمّا جهلاً بمهنتها وموقعها الاجتماعي، وإمّا استسهالاً ينبثق من كليشيهات عامّة لا أكثر.

شخصيات أخرى، كالطبيب والمحامي ورجل الأعمال و"الشبّيح" والأزعر وتاجر المخدرات والصحافي والمشاغب وغيرها، مُصابة بعطب الكتابة والبناء الإنساني/ البشري والنفسيّ والاجتماعي (إلخ.)، فتظهر مبتورة غالباً. أمّا التمثيل، فسببٌ أساسيّ في ظهورها هكذا (يُضاف إلى عطب الكتابة، المنسحب على الحوار أيضاً)، إذْ يندر العثور على ممثل يُتقن فنّ الأداء التلفزيوني غير المدّعي وغير المتصنّع وغير النجوميّ أولاً، وعلى ممثل يشتغل طويلاً على شخصية يُوافق على تأديتها، إنْ تكن الموافقة خارجة على لائحة الربح الماديّ البحت، ثانياً.
لكلّ شخصية تركيبة تجمع في جوهرها الاجتماع والتربية والثقافة والسلوك وتأثيرات البيئة المحيطة بها. نادرون هم الممثلون اللبنانيون التلفزيونيون المتمكّنون فعلياً من امتلاك حدٍّ كبيرٍ من حساسية كلّ شخصية يختارونها، وكلّ دور يؤدّونه. نادرون هم أولئك الذين يذهبون إلى أناسٍ "هم" أساس شخصياتهم التلفزيونية، فيتعرّفون إليهم ويتحدّثون معهم ويفهمون، أو يحاولون فهم طباعٍ أو نفسيات أو مسالك أو تصرّفات أو ردود فعل. فالنجومية غالبة على ممثلات/ ممثلين معروفين، والتوق إلى النجومية طاغ على مبتدئاتٍ/ مبتدئين.
مثلٌ على ذلك؟ باسم مغنية في "سرّ" (كتابة مؤيد النابلسي، إخراج مروان بركات)، في شخصية جاد حرب، الذي يُكلَّف بالتحقيق في اختفاء رجل أعمال يُدعى عامر بدران (باسم كوسا)، لكونه أشطر المحقّقين في سرعة كشف الجرائم (أسذج مشهدٍ هو أول ظهور له في قضية يتمكّن من حلّ "لغزها" بعد ثوانٍ قليلة للغاية على دخوله منزل الضحية). في لقطات عدّة، يبدو مغنية حازماً في أداء دور جاد حرب، لكنّه عاجز عن الحفاظ على هذا الحزم والسوية في لقطات كثيرة أخرى، خصوصاً في لحظات التحقيق. ولعلّه غير مسؤول عن ذلك كلّياً، فالكتابة عاجزةٌ عن إدراك أسس التحقيق ومفرداته وآلياته، بينما مرافقوه الأمنيون يبدون تلامذة صفوف ابتدائية، لا رجال أمن.
مشكلة الدراما اللبنانية (والعربية غالباً) كامنةٌ في هوسها بإطالةٍ يعجز كتّابها كثيراً عن تلبية شرطها الفني الإبداعي، فيقعون في الثرثرة، كلاماً ومَشاهد، أو في تمرير الوقت كيفما كان، لصنع مسلسلات تُلبّي حاجة السوق الرمضانية، من دون اكتراثٍ ببعض أبرز أصول الكتابة والإخراج التلفزيونيين.

المساهمون